الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                        صفحة جزء
                        [ ص: 452 ] فصل من تمام ما قبله

                        وذلك أنه وقعت نازلة : إمام مسجد ترك ما عليه الناس بالأندلس من الدعاء للناس بآثار الصلوات بالهيئة الاجتماعية على الدوام ، وهو أيضا معهود في أكثر البلاد ؛ فإن الإمام إذا سلم من الصلاة يدعو للناس ويؤمن الحاضرون ، وزعم التارك أن تركه بناء منه على أنه لم يكن من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا فعل الأئمة حسبما نقله العلماء في دواوينهم عن السلف والفقهاء .

                        أما أنه لم يكن من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فظاهر :

                        لأن حاله عليه السلام في أدبار الصلوات مكتوبات أو نوافل كانت بين أمرين :

                        إما أن يذكر الله تعالى ذكرا هو في العرف غير دعاء ؛ فليس للجماعة منه حظ ؛ إلا أن يقولوا مثل قوله أو نحوا من قوله ؛ كما في غير أدبار الصلوات :

                        كما جاء : أنه كان يقول في دبر كل صلاة : لا إله إلا الله وحده ، لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير ، اللهم لا مانع لما أعطيت ، ولا معطي لما منعت ، ولا ينفع ذا الجد منك الجد .

                        وقوله : اللهم أنت السلام ، ومنك السلام ، تباركت وتعاليت يا ذا [ ص: 453 ] الجلال والإكرام .

                        وقوله : سبحان ربك رب العزة عما يصفون . . . ، ونحو ذلك . . . .

                        فإنما كان يقول [ ـه ] في خاصة نفسه كسائر الأذكار ، فمن قال مثل قوله ؛ فحسن ، ولا يمكن في هذا كله هيئة اجتماع .

                        وإن كان دعا ؛ فعامة ما جاء من دعائه عليه السلام بعد الصلاة مما سمع منه إنما كان يخص به نفسه دون الحاضرين :

                        كما في الترمذي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه : كان إذا قام إلى الصلاة المكتوبة رفع يديه . . الحديث ، إلى قوله : ويقول عند انصرافه من الصلاة : اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت ، وما أسررت وما أعلنت ، أنت إلهي لا إله إلا أنت ، حسن صحيح .

                        وفي رواية أبي داود : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلم من الصلاة قال : اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت ، وما أسررت وما أعلنت ، وما أسرفت ، وما أنت أعلم به مني ، أنت المقدم وأنت المؤخر ، لا إله إلا أنت حسن صحيح .

                        وخرج أبو داود : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول دبر كل صلاة : اللهم ربنا [ ص: 454 ] ورب كل شيء ، أنا شهيد أن محمدا عبدك ورسولك ، اللهم ربنا ورب كل شيء ! أنا شهيد أن العباد كلهم إخوة ، اللهم ربنا ورب كل شيء ! اجعلني مخلصا لك وأهلي في كل ساعة في الدنيا والآخرة ، يا ذا الجلال والإكرام ! اسمع واستجب ، الله أكبر الله أكبر ، الله نور السماوات والأرض ، الله أكبر ، الله أكبر ، حسبي الله ونعم الوكيل .

                        ولـ أبي داود في رواية : رب أعني ولا تعن علي ، وانصرني ولا تنصر علي ، وأمكن لي ولا تمكن علي ، واهدني ويسر هداي إلي ، وانصرني على من بغى علي . . . إلى آخر الحديث .

                        وفي النسائي : أنه عليه الصلاة والسلام كان يقول في دبر الفجر إذا صلى : اللهم إني أسألك علما نافعا ، وعملا متقبلا ، ورزقا طيبا .

                        وعن بعض الأنصار ؛ قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في دبر الصلاة : اللهم ! اغفر لي ، وتب علي ؛ إنك أنت التواب الغفور ، حتى يبلغ مائة مرة .

                        وفي رواية : أن هذه الصلاة كانت صلاة الضحى .

                        فتأملوا سياق هذه الأدعية كلها مساق تخصيص نفسه بها دون الناس ! فيكون مثل هذا حجة لفعل الناس اليوم ؟ !

                        [ ص: 455 ] إلا أن يقال : قد جاء الدعاء للناس في مواطن ؛ كما في الخطبة التي استسقى فيها ، ونحو ذلك .

                        فيقال : نعم ؛ فأين التزام ذلك جهرا للحاضرين في دبر كل صلاة ؟ ! .

                        ثم نقول : إن العلماء يقولون في مثل الدعاء والذكر الوارد على أثر الصلاة : إنه مستحب ، لا سنة ولا واجب ، وهو دليل على أمرين :

                        أحدهما : أن هذه الأدعية لم تكن منه عليه والسلام على الدوام .

                        والثاني : أنه لم يكن يجهر بها دائما ، ولا يظهرها للناس في غير مواطن التعليم ، إذ لو كانت على الدوام وعلى الإظهار ؛ لكانت سنة ، ولم يسع العلماء أن يقولوا فيها بغير السنة ، إذ خاصيته ـ حسبما ذكروه ـ الدوام والإظهار في مجامع الناس .

                        ولا يقال : لو كان دعاؤه عليه السلام سرا ؛ لم يؤخذ عنه .

                        لأنا نقول : من كانت عادته الإسرار ؛ فلا بد أن يظهر منه [ الجهر ] ولو مرة ، إما بحكم العادة ، [ وإما ] بقصد التنبيه على التشريع .

                        فإن قيل : ظواهر الأحاديث تدل على الدوام [ حاصل ] ؛ بقول الرواة : " كان يفعل " ؛ فإنه يدل على الدوام ؛ كقولهم : " كان حاتم يكرم الضيفان " .

                        قلنا : ليس كذلك ، بل يطلق على الدوام وعلى الكثير والتكرار على الجملة :

                        كما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها : أنه عليه الصلاة والسلام : [ ص: 456 ] كان إذا أراد أن ينام وهو جنب ؛ توضأ وضوءه للصلاة .

                        وروت أيضا أنه : كان عليه الصلاة والسلام ينام وهو جنب ؛ من غير أن يمس ماء .

                        بل قد يأتي في بعض الأحاديث : " كان يفعل " فيما لم يفعله إلا مرة واحدة ، نص عليه أهل الحديث .

                        ولو كان يداوم المداومة التامة ؛ للحق بالسنن ؛ كالوتر وغيره ، ولو سلم ؛ فأين هيئة الاجتماع ؟ .

                        فقد حصل أن الدعاء بهيئة الاجتماع دائما لم يكن من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ كما لم يكن [ من ] قوله ولا إقراره .

                        وروى البخاري من حديث أم سلمة : " أنه صلى الله عليه وسلم : كان يمكث إذا سلم يسيرا .

                        قال ابن شهاب : " حتى ينصرف الناس فيما نرى " .

                        وفي مسلم عن عائشة ( رضي الله عنها ) : أن النبي صلى الله عليه وسلم : كان إذا سلم ؛ لم يقعد إلا مقدار ما يقول : اللهم ! أنت السلام ، ومنك السلام ، تباركت يا ذا الجلال والإكرام .

                        وأما فعل الأئمة بعده :

                        [ ص: 457 ] فقد نقل الفقهاء من حديث أنس في غير كتب الصحيح : " صليت خلف النبي عليه السلام ، فكان إذا سلم يقوم ، و صليت خلف أبي بكر رضي الله عنه ؛ فكان إذا سلم وثب كأنه على رضفة ( يعني : الحجر المحمى ) .

                        ونقل ابن يونس الصقلي عن ابن وهب عن خارجة : " أنه كان يعيب على الأئمة قعودهم بعد السلام ، وقال : إنما كانت الأئمة ساعة تسلم تقوم " .

                        وقال ابن عمر : " جلوسه بدعة " .

                        وعن ابن مسعود ( رضي الله عنه ) ؛ قال : " لأن يجلس على الرضف خير له من ذلك " .

                        وقال مالك في " المدونة " : " إذا سلم ؛ فليقم ، ولا يقعد ؛ إلا أن يكون في سفر أو في فنائه " .

                        وعد الفقهاء إسراع القيام ساعة يسلم من فضائل الصلاة ، ووجهوا ذلك بأن جلوسه هنالك يدخل عليه فيه كبر وترفع على الجماعة ، وانفراده بموضوع عنهم يرى به الداخل أنه إمامهم ، وأما انفراده به حال الصلاة ؛ فضروري .

                        قال بعض شيوخنا الذين استفدنا بهم : " وإذا كان هذا في انفراده في [ ص: 458 ] الموضع ، فكيف بما انضاف إليه من تقدمه أمامهم في التوسل به بالدعاء والرغبة وتأمينهم على دعائه جهرا ؟ !

                        قال : " ولو كان هذا حسنا ؛ لفعله النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ( رضي الله عنهم ) ، ولم ينقل ذلك أحد من العلماء ، مع تواطئهم على نقل جميع أموره ، حتى : هل كان ينصرف من الصلاة عن اليمين أو عن الشمال ؟ ! وقد نقل ابن بطال عن علماء السلف إنكار ذلك والتشديد فيه على من فعله بما فيه كفاية " .

                        هذا ما نقله الشيخ بعد أن جعل الدعاء بإثر الصلاة بهيئة الاجتماع دائما بدعة قبيحة ، واستدل على عدم ذلك في الزمان الأول بسرعة القيام والانصراف ؛ لأنه مناف للدعاء لهم وتأمينهم على دعائه ؛ بخلاف الذكر ودعاء الإنسان لنفسه ؛ فإن الانصراف وذهاب الإنسان لحاجته غير مناف لهما .

                        فبلغت الكائنة بعض شيوخ العصر ، فرد على ذلك الإمام ردا أقذع فيه على خلاف ما عليه الراسخون ، وبلغ من الرد ـ بزعمه ـ إلى أقصى غاية ما قدر عليه ، واستدل بأمور إذا تأملها الفطن ؛ عرف ما فيها :

                        كالأمر بالدعاء إثر الصلاة قرآنا وسنة ، وهو ـ كما تقدم ـ لا دليل فيه .

                        ثم ضم إلى ذلك جواز الدعاء بهيئة الاجتماع في الجملة ؛ [ ص: 459 ] إلا في أدبار الصلوات ، ولا دليل فيه أيضا ـ كما تقدم ـ لاختلاف المتأصلين .

                        وأما في التفصيل ؛ فزعم أنه ما زال معمولا به في جميع أقطار الأرض أو في جلها من الأئمة في مساجد الجماعات من غير نكير إلا نكير أبي عبد الله الباروني ، ثم أخذ في ذمه .

                        وهذا النقل تهور بلا شك ؛ لأنه نقل إجماع يجب على الناظر فيه والمحتج به قبل التزام عهدته أن يبحث عنه بحث أصل عن الإجماع ؛ لأنه لا بد من النقل عن جميع المجتهدين من هذه الأمة من أول زمان الصحابة ( رضي الله عنهم ) إلى الآن ، هذا أمر مقطوع به ، ولا خلاف أنه لا اعتبار بإجماع العوام ، وإن ادعوا الإمامة .

                        وقوله : " من غير نكير " تجوز ، بل ما زال الإنكار عليهم من الأئمة ، فقد نقل الطرطوشي عن مالك في ذلك أشياء تخدم المسألة ، فحصل إنكار مالك لها في زمانه ، وإنكار الإمام الطرطوشي في زمانه ، واتبع هذا أصحابه وهذا أصحابه ، ثم القرافي قد عد ذلك من البدع المكروهة على مذهب مالك ، وسلم ، ولم ينكره عليه أهل زمانه ـ فيما نعلمه ـ مع زعمه أن من البدع ما هو حسن ، ثم الشيوخ الذين كانوا بالأندلس حين دخلتها هذه البدعة ـ حسبما يذكر بحول الله ـ وقد أنكروها ، وكان من معتقدهم في ذلك أنه مذهب مالك ، وكان أبو عبد الله بن مجاهد وتلميذه أبو عمران الميرتلي رحمهما الله ملتزمين لتركها ، حتى اتفق للشيخ أبي عبد الله في ذلك ما سنذكره إن شاء الله .

                        قال بعض شيوخنا رادا على بعض من نصر هذا العمل [ قائلا : ] فإنا [ ص: 460 ] قد شاهدنا الأئمة الفقهاء الصلحاء المتبعين للسنة المتحفظين بأمور دينهم يفعلون ذلك أئمة ومأمومين ، ولم نر من ترك ذلك ؛ إلا من شذ في أحواله .

                        فقال : " وأما احتجاج منكر ذلك بأن هذا لم يزل الناس يفعلونه ؛ فلم يأت بشيء ؛ لأن الناس الذين يقتدى بهم ثبت أنهم لم يكونوا يفعلونه " .

                        قال : " ولما كانت البدع والمخالفات وتواطؤ الناس عليها ؛ صار الجاهل يقول : لو كان هذا منكرا ؛ لما فعله الناس " .

                        ثم حكى أثر الموطأ : " ما أعرف شيئا مما أدركت عليه الناس إلا النداء بالصلاة " .

                        قال : " فإذا كان هذا في عهد التابعين يقول : كثرت الإحداثات ؛ فكيف بزماننا ؟ ! .

                        ثم هذا الإجماع لو ثبت ؛ لزم منه محظور ؛ لأنه مخالف لما نقل عن الأولين من تركه ، فصار نسخ إجماع بإجماع ، وهذا محال في الأصول .

                        وأيضا ؛ فلا تكون مخالفة المتأخرين لإجماع المتقدمين على سنة حجة على تلك السنة أبدا .

                        فما أشبه هذه المسألة بما حكي عن أبي علي بشاذان بسند يرفعه إلى أبي عبد الله بن إسحاق الجعفري ، قال :

                        " كان عبد الله بن الحسن ـ يعني : ابن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم ـ يكثر الجلوس إلى ربيعة ، فتذاكروا يوما ، فقال رجل كان [ ص: 461 ] في المجلس : ليس العمل على هذا فقال عبد الله : أرأيت إن كثر الجهال حتى يكونوا هم الحكام ، أفهم الحجة على السنة ؟ فقال ربيعة : أشهد أن هذا كلام أبناء الأنبياء " انتهى .

                        إلا أني أقول : أرأيت إن كثر المقلدون ثم أحدثوا بآرائهم فحكموا بها ، أفهم الحجة على السنة ؟ ولا كرامة .

                        ثم عضد ما ادعاه بأشياء من جملتها قوله : " ومن أمثال الناس : أخطئ مع الناس ولا تصب وحدك ؛ أي : أن خطأهم هو الصواب ، وصوابك هو الخطأ " .

                        قال : " ومعنى ما جاء في حديث : عليك بالجماعة ؛ فإنما يأكل [ الذئب من الغنم ] القاصية .

                        فجعل تارك الدعاء على الكيفية المذكورة مخالفا للإجماع كما ترى ، وحض على اتباع الناس وترك المخالفة ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام : لا تختلفوا فتختلف قلوبكم ، وكل ذلك مبني على الإجماع الذي ذكروا أن الجماعة هم جماعة الناس كيف كانوا ! ! .

                        [ ص: 462 ] وسيأتي معنى الجماعة المذكورة في حديث الفرق ، وأنها المتبعة للسنة ، وإن كانت رجلا واحدا في العالم .

                        قال بعض الحنابلة : " لا تعبأ بما يعرض من المسائل ويدعى فيها الصحة بمجرد التهويل أو بدعوى أن لا خلاف في ذلك ، وقائل ذلك لا يعلم أحدا قال فيها بالصحة ؛ فضلا عن نفي الخلاف فيها ، وليس الحكم فيها من الجليات التي لا يعذر المخالف " .

                        قال : " وفي مثل هذه المسائل قال الإمام أحمد بن حنبل : من ادعى الإجماع فهو كاذب ، وإنما هذه دعوى بشر وابن علية ، يريدون أن يبطلوا السنن بذلك ؛ يعني أحمد : أن المتكلمين في الفقه على أهل البدع ؛ إذا ناظرتهم بالسنن والآثار ؛ قالوا : هذا خلاف ( الإجماع ) ، وذلك القول الذي يخالف ذلك الحديث لا يحفظونه إلا عن بعض فقهاء المدينة أو فقهاء الكوفة مثلا ، فيدعون الإجماع من قلة معرفتهم بأقاويل العلماء ، واجترائهم على رد السنن بالآراء ، حتى كان بعضهم يسرد عليه الأحاديث الصحيحة في خيار المجلس ونحوه من الأحكام ؛ فلا يجد لها معتصما إلا أن يقول : هذا لم يقل به أحد من العلماء ، وهو لا يعرف إلا [ أن ] أبا حنيفة ومالكا لم يقولوا بذلك ، ولو كان له علم ؛ لرأى من الصحابة والتابعين وتابعيهم ممن قال بذلك خلقا كثيرا " .

                        ففي هذا الكلام إرشاد لمعنى ما نحن فيه ، وأنه لا ينبغي أن ينقل حكم شرعي عن أحد من أهل العلم إلا بعد تحققه والتثبت ؛ لأنه مخبر عن حكم الله ، فإياكم والتساهل ؛ فإنه مظنة الخروج عن الطريق الواضح إلى السيئات .

                        [ ص: 463 ] ثم عد من المفاسد في مخالفة الجمهور : أنه يرميهم بالتجهيل والتضليل ، وهذا دعوى من خالفه فيما قال ، وعلى تسليمها ؛ فليست بمفسدة على فرض اتباع السنة ، وقد جاء عن السلف الحض على العمل بالحق وعدم الاستيحاش من قلة أهله .

                        وأيضا ؛ فمن شنع على المبتدع بلفظ الابتداع ، فأطلق العبارة بالنسبة إلى المجتمعين يوم عرفة بعد العصر للدعاء في غير عرفة . . . . إلى نظائرها ؛ فتشنيعه حق كما يقول بالنسبة إلى بشر المريسي ومعبد الجهني وفلان وفلان ، ولا يدخل بذلك ـ إن شاء الله ـ في حديث : من قال : هلك الناس ؛ فهو أهلكهم ؛ لأن المراد أن يقول ذلك ترفعا على الناس واستحقارا ، وأما إن قاله تحزنا وتحسرا ؛ فلا بأس . قال [ ـه ] بعضهم .

                        ونحن نرجو أن نعرج على ذلك ـ إن شاء الله ـ فالاستدلال به ليس على وجهه .

                        وعد من المفاسد الخوف من فساد نيته بما يدخل عليه من العجب والشهرة المنهي عنها ! ! فكأنه يقول : اترك اتباع السنة في زمان الغربة خوف الشهرة ودخول العجب ! ! .

                        وهذا شديد من القول ، وهو معارض بمثله ؛ فإن انتصابه لأن يكون داعيا للناس بأثر صلواتهم دائما مظنة لفساد نيته بما يدخل عليه من العجب والشهرة ، وهو تعليل القرافي ، وهو أولى ؛ في طريق الاتباع ، فصار تركه للدعاء لهم مقرونا بالاقتداء بخلاف الداعي ؛ فإنه في غير طريق من تقدم ، فهو أقرب [ ص: 464 ] إلى فساد النية .

                        وعد منها ما يظن به من القول برأي أهل البدع القائلين بأن الدعاء غير نافع ، وهذا كالذي قبله ؛ لأنه يقول للناس : اتركوا اتباع النبي صلى الله عليه وسلم في ترك الدعاء بهيئة الاجتماع بعد الصلوات ؛ لئلا يظن بك [ ـم ] الابتداع ، وهذا كما ترى .

                        قال ابن العربي : " ولقد كان شيخنا أبو بكر الفهري يرفع يديه عند الركوع وعند رفع الرأس منه ، وهو مذهب مالك و الشافعي ، وتفعله الشيعة " .

                        قال : " فحضر عندي يوما في محرس أبي الشعراء بالثغر موضع تدريسي عند صلاة الظهر ، ودخل المسجد من المحرس المذكور ، فتقدم إلى الصف الأول وأنا في مؤخره قاعد على طاقات البحر أتنسم الريح من شدة الحر ، ومعي في صف واحد أبو ثمنة رئيس البحر وقائده في نفر من أصحابه ينتظر الصلاة ويتطلع على مراكب المنار ، فلما رفع الشيخ الفهري يديه في الركوع وفي رفع الرأس منه ؛ قال أبو ثمنة وأصحابه : ألا ترون إلى هذا المشرقي كيف دخل مسجدنا ؟ قوموا إليه فاقتلوه وارموا به في البحر فلا يراكم أحد ، فطار قلبي من بين جوانحي ، وقلت : سبحان الله ! هذا الطرطوشي فقيه الوقت ! فقالوا لي : ولم يرفع يديه ؟ فقلت : كذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ، وهو مذهب مالك في رواية أهل المدينة ، وجعلت أسكنهم وأسكنهم حتى فرغ من صلاته ، وقمت معه إلى المسكن من المحرس ، ورأى تغير وجهي فأنكر ، وسألني فأعلمته فضحك ، وقال : من أين لي أن أقتل على سنة ؟ فقلت له : ويحل لك هذا ؛ فإنك بين قوم إن [ ص: 465 ] قمت بها قاموا عليك ، وربما ذهب دمك ؟ ! فقال : دع هذا الكلام وخذ في غيره " .

                        فتأملوا في هذه القصة ففيها الشفاء ، إذ لا مفسدة في الدنيا توازي مفسدة إماتة السنة ، وقد حصلت النسبة إلى البدعة ، ولكن الطرطوشي رحمه الله [ كان لا ] يرى ذلك شيئا .

                        فكلامه للاتباع أولى من كلام هذا الراد ، إذ بينهما في العلم ما بينهما .

                        وأيضا ؛ فلو اعتبر ما قال ؛ لزم اعتباره بمثله في كل من أنكر الدعاء بهيئة الاجتماع يوم عرفة في غير عرفة ، ومنهم نافع مولى ابن عمر و مالك و الليث وغيرهم من السلف ، ولما كان ذلك غير لازم ؛ فمسألتنا كذلك .

                        ثم ختم هذا الاستدلال الإجماعي بقوله : وقد اجتمع أئمة الإسلام في مساجد الجماعات في هذه الأعصار وفي جميع الأقطار على الدعاء أدبار الصلاة ، فيشبه أن يدخل ذلك مدخل حجة إجماعية عصرية .

                        فإن أراد الدعاء على هيئة الاجتماع دائما لا يترك كما يفعل بالسنن ، وهي مسألتنا المفروضة ، فقد تقدم ما فيه .

                        التالي السابق


                        الخدمات العلمية