الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              [ ص: 5 ] كتاب الاجتهاد وهو القسم الخامس من الموافقات

              [ ص: 6 ] [ ص: 7 ] بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

              كتاب الاجتهاد

              وللنظر فيه ثلاثة أطراف :

              أ - طرف يتعلق بالمجتهد من جهة الاجتهاد .

              ب - وطرف يتعلق بفتواه .

              ج - وطرف يتعلق النظر فيه بإعمال قوله والاقتداء به .

              [ ص: 8 ] [ ص: 9 ] الطرف الأول في الاجتهاد

              فأما الأول; ففيه مسائل :

              [ ص: 10 ] [ ص: 11 ] المسألة الأولى

              الاجتهاد على ضربين :

              أحدهما : لا يمكن أن ينقطع حتى ينقطع أصل التكليف ، وذلك عند قيام الساعة .

              والثاني : يمكن أن ينقطع قبل فناء الدنيا .

              [ ص: 12 ] فأما الأول فهو الاجتهاد المتعلق بتحقيق المناط ، وهو الذي لا خلاف بين الأمة في قبوله ، ومعناه أن يثبت الحكم بمدركه الشرعي لكن يبقى النظر في تعيين محله ، وذلك أن الشارع إذا قال وأشهدوا ذوي عدل منكم [ الطلاق : 2 ] وثبت عندنا معنى العدالة شرعا افتقرنا إلى تعيين من حصلت [ ص: 13 ] فيه هذه الصفة ، وليس الناس في وصف العدالة على حد سواء ، بل ذلك يختلف اختلافا متباينا ، فإنا إذا تأملنا العدول وجدنا لاتصافهم بها طرفين وواسطة ، طرف أعلى في العدالة لا إشكال فيه كأبي بكر الصديق ، وطرف آخر وهو أول درجة في الخروج عن مقتضى الوصف كالمجاوز لمرتبة الكفر إلى الحكم بمجرد الإسلام فضلا عن مرتكبي الكبائر المحدودين فيها ، وبينهما مراتب لا تنحصر ، وهذا الوسط غامض لا بد فيه من بلوغ حد الوسع وهو الاجتهاد .

              فهذا مما يفتقر إليه الحاكم في كل شاهد ، كما إذا أوصى بماله للفقراء ، فلا شك أن من الناس من لا شيء له فيتحقق فيه اسم الفقر فهو [ ص: 14 ] من أهل الوصية ، ومنهم من لا حاجة به ولا فقر وإن لم يملك نصابا ، وبينهما وسائط; كالرجل يكون له الشيء ولا سعة له; فينظر فيه : هل الغالب عليه حكم الفقر أو حكم الغنى ؟ وكذلك في فرض نفقات الزوجات والقرابات; إذ هو مفتقر إلى النظر في حال المنفق عليه والمنفق ، وحال الوقت إلى غير ذلك من الأمور التي لا تنضبط بحصر ، ولا يمكن استيفاء القول في آحادها; فلا يمكن أن يستغنى هاهنا بالتقليد; لأن التقليد إنما يتصور بعد تحقيق مناط الحكم المقلد فيه ، والمناط هنا لم يتحقق بعد; لأن كل صورة من صوره النازلة نازلة مستأنفة في نفسها لم يتقدم لها نظير ، وإن تقدم لها في نفس الأمر فلم يتقدم لنا; فلا بد من النظر فيها بالاجتهاد ، وكذلك إن فرضنا أنه تقدم لنا مثلها; فلا بد من النظر في كونها مثلها أو لا ، وهو نظر اجتهادي أيضا ، وكذلك القول فيما فيه حكومة من أروش الجنايات ، وقيم المتلفات .

              ويكفيك من ذلك أن الشريعة لم تنص على حكم كل جزئية على حدتها ، وإنما أتت بأمور كلية ، وعبارات مطلقة تتناول أعدادا لا تنحصر ، ومع ذلك فلكل معين خصوصية ليست في غيره ولو في نفس التعيين ، وليس ما به [ ص: 15 ] الامتياز معتبرا في الحكم بإطلاق ، ولا هو طردي بإطلاق ، بل ذلك منقسم إلى الضربين ، وبينهما قسم ثالث يأخذ بجهة من الطرفين ، فلا يبقى صورة من الصور الوجودية المعينة إلا وللعالم فيها نظر سهل أو صعب حتى يحقق تحت أي دليل تدخل ، فإن أخذت بشبه من الطرفين فالأمر أصعب ، وهذا كله بين لمن شدا في العلم .

              ومن القواعد القضائية " البينة على المدعي واليمين على من أنكر " فالقاضي لا يمكنه الحكم في واقعة - بل لا يمكنه توجيه [ ص: 16 ] الحجاج ، ولا طلب الخصوم بما عليهم - إلا بعد فهم المدعي من المدعى عليه ، وهو أصل القضاء ، ولا يتعين ذلك إلا بنظر واجتهاد ورد الدعاوى إلى الأدلة ، وهو تحقيق المناط بعينه .

              فالحاصل أنه لا بد منه بالنسبة إلى كل ناظر وحاكم ومفت ، بل بالنسبة إلى كل مكلف في نفسه; فإن العامي إذا سمع في الفقه أن الزيادة الفعلية في الصلاة سهوا من غير جنس أفعال الصلاة ، أو من جنسها إن كانت يسيرة فمغتفرة ، وإن كانت كثيرة فلا ، فوقعت له في صلاته زيادة; فلا بد له من النظر فيها حتى يردها إلى أحد القسمين ، ولا يكون ذلك إلا باجتهاد ونظر ، فإذا تعين له قسمها [ ص: 17 ] تحقق له مناط الحكم فأجراه عليه ، وكذلك سائر تكليفاته ، ولو فرض ارتفاع هذا الاجتهاد لم تتنزل الأحكام الشرعية على أفعال المكلفين إلا في الذهن; لأنها مطلقات وعمومات وما يرجع إلى ذلك ، منزلات على أفعال مطلقات كذلك ، والأفعال لا تقع في الوجود مطلقة ، وإنما تقع معينة مشخصة ، فلا يكون الحكم واقعا عليها إلا بعد المعرفة بأن هذا المعين يشمله ذلك المطلق أو ذلك العام ، وقد يكون ذلك سهلا ، وقد لا يكون ، وكله اجتهاد .

              وقد يكون من هذا القسم ما يصح فيه التقليد ، وذلك فيما اجتهد فيه الأولون من تحقيق المناط إذا كان متوجها على الأنواع لا على الأشخاص المعينة; كالمثل في جزاء الصيد ، فإن الذي جاء في الشريعة قوله تعالى فجزاء مثل ما قتل من النعم [ المائدة : 95 ] وهذا ظاهر في اعتبار المثل ، إلا أن المثل لا بد من تعيين نوعه ، وكونه مثلا لهذا النوع المقتول ، ككون الكبش مثلا للضبع ، والعنز مثلا للغزال ، والعناق مثلا للأرنب ، والبقرة مثلا للبقرة الوحشية ، والشاة مثلا للشاة من الظباء ، وكذلك الرقبة الواجبة في عتق الكفارات ، والبلوغ في الغلام والجارية ، وما أشبه ذلك ، ولكن هذا الاجتهاد في الأنواع لا يغني عن الاجتهاد في الأشخاص المعينة; فلا بد من هذا الاجتهاد في كل زمان; إذ لا يمكن [ ص: 18 ] حصول التكليف إلا به ، فلو فرض التكليف مع إمكان ارتفاع هذا الاجتهاد لكان تكليفا بالمحال ، وهو غير ممكن شرعا ، كما أنه غير ممكن عقلا ، وهو [ ص: 19 ] أوضح دليل في المسألة .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية