الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              [ ص: 164 ] [ ص: 165 ] بسم الله الرحمن الرحيم

              وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

              كتاب الأدلة الشرعية

              والنظر فيه فيما يتعلق بها على الجملة ، وفيما يتعلق بكل واحد منها على التفصيل ، وهي الكتاب والسنة والإجماع والقياس .

              فالنظر إذا يتعلق بطرفين .

              [ ص: 166 ] [ ص: 167 ] الطرف الأول في الأدلة على الجملة ، والكلام فيها ( أ ) في كليات تتعلق بها ، و ( ب ) في العوارض اللاحقة لها والأول يحتوي على مسائل .

              [ ص: 168 ] [ ص: 169 ] النظر الأول

              في كليات الأدلة على الجملة

              [ ص: 170 ] [ ص: 171 ] المسألة الأولى

              لما انبنت الشريعة على قصد المحافظة على المراتب الثلاث من الضروريات والحاجيات والتحسينات ، وكانت هذه الوجوه مبثوثة في أبواب [ ص: 172 ] الشريعة وأدلتها غير مختصة بمحل دون محل ولا بباب دون باب ولا بقاعدة دون قاعدة كان النظر الشرعي فيها أيضا عاما لا يختص بجزئية دون أخرى; لأنها كليات تقضي على كل جزئي تحتها ، وسواء علينا أكان جزئيا إضافيا أم حقيقيا; إذ ليس فوق هذه الكليات كلي تنتهي إليه ، بل هي أصول الشريعة ، وقد تمت ، فلا يصح أن يفقد بعضها حتى يفتقر إلى إثباتها بقياس ، أو غيره ، فهي الكافية في مصالح الخلق عموما ، وخصوصا; لأن الله تعالى قال : اليوم أكملت لكم دينكم [ المائدة : 3 ] [ ص: 173 ] وقال : ما فرطنا في الكتاب من شيء [ الأنعام : 38 ] ، وفي الحديث : تركتكم على الجادة الحديث ، وقوله : لا يهلك على الله إلا هالك ، ونحو ذلك من الأدلة الدالة على تمام الأمر ، وإيضاح السبيل ، وإذا كان كذلك ، وكانت الجزئيات ، وهي أصول الشريعة فما تحتها [ ص: 174 ] مستمدة من تلك الأصول الكلية شأن الجزئيات مع كلياتها في كل نوع من أنواع الموجودات فمن الواجب اعتبار تلك الجزئيات بهذه الكليات عند إجراء الأدلة الخاصة من الكتاب والسنة والإجماع والقياس; إذ محال أن تكون الجزئيات مستغنية عن كلياتها ، فمن أخذ بنص مثلا في جزئي معرضا عن كليه ، فقد أخطأ ، وكما أن من أخذ بالجزئي معرضا عن كليه فهو مخطئ كذلك من أخذ بالكلي معرضا عن جزئيه .

              وبيان ذلك أن تلقي العلم بالكلي إنما هو من عرض الجزئيات ، واستقرائها [ ص: 175 ] وإلا فالكلي من حيث هو كلي غير معلوم لنا قبل العلم بالجزئيات ولأنه ليس بموجود في الخارج ، وإنما هو مضمن في الجزئيات حسبما تقرر في المعقولات ، فإذا الوقوف مع الكلي مع الإعراض عن الجزئي ، وقوف مع شيء لم يتقرر العلم به بعد دون العلم بالجزئي ، والجزئي هو مظهر العلم به ، وأيضا فإن الجزئي لم يوضع جزئيا إلا لكون الكلي فيه على التمام ، وبه قوامه فالإعراض عن الجزئي من حيث هو جزئي إعراض عن الكلي نفسه في الحقيقة ، وذلك تناقض ولأن الإعراض عن الجزئي جملة يؤدي إلى الشك في الكلي من جهة أن الإعراض عنه إنما يكون عند مخالفته للكلي ، أو توهم المخالفة له ، وإذا خالف الكلي الجزئي مع أنا إنما نأخذه من الجزئي دل على أن ذلك الكلي لم يتحقق العلم به لإمكان أن يتضمن ذلك الجزئي جزءا من الكلي لم يأخذه المعتبر جزءا منه ، وإذا أمكن هذا لم يكن بد من الرجوع إلى الجزئي في معرفة الكلي ، ودل ذلك على أن الكلي لا يعتبر بإطلاقه دون اعتبار الجزئي ، وهذا كله يؤكد لك أن المطلوب المحافظة على قصد الشارع ; [ ص: 176 ] لأن الكلي إنما ترجع حقيقته إلى ذلك والجزئي كذلك أيضا ، فلا بد من اعتبارهما معا في كل مسألة .

              فإذا ثبت بالاستقراء قاعدة كلية ، ثم أتى النص على جزئي يخالف القاعدة بوجه من وجوه المخالفة ، فلا بد من الجمع في النظر بينهما ; لأن الشارع لم ينص على ذلك الجزئي إلا مع الحفظ على تلك القواعد; إذ كلية هذا معلومة ضرورة بعد الإحاطة بمقاصد الشريعة ، فلا يمكن والحالة هذه أن تخرم القواعد بإلغاء ما اعتبره الشارع ، وإذا ثبت هذا لم يمكن أن يعتبر الكلي ، ويلغى الجزئي .

              فإن قيل : الكلي لا يثبت كليا إلا من استقراء الجزئيات كلها ، أو أكثرها ، وإذا كان كذلك لم يمكن أن يفرض جزئي إلا وهو داخل تحت الكلي; لأن الاستقراء قطعي إذا تم ، فالنظر إلى الجزئي بعد ذلك عناء ، وفرض مخالفته [ ص: 177 ] غير صحيح كما أنا إذا حصلنا من حقيقة الإنسان مثلا بالاستقراء معنى الحيوانية لم يصح أن يوجد إنسان إلا وهو حيوان فالحكم عليه بالكلي حكم قطعي لا يتخلف ، وجد أو لم يوجد ، فلا اعتبار به في الحكم بهذا الكلى من حيث إنه لا يوجد إلا كذلك ، فإذا فرضت المخالفة في بعض الجزئيات فليس بجزئي له كالتماثيل ، وأشباهها .

              فكذلك هنا إذا وجدنا أن الحفظ على الدين ، أو النفس ، أو النسل ، أو المال ، أو العقل في الضروريات معتبر شرعا ، ووجدنا ذلك عند استقراء جزئيات الأدلة حصل لنا القطع بحفظ ذلك ، وأنه المعتبر حيثما وجدناه فنحكم به على كل جزئي فرض عدم الاطلاع عليه ، فإنه لا يكون إلا على ذلك الوزان لا يخالفه على حال ; إذ لا يوجد بخلاف ما وضع ، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا [ النساء : 82 ] فما فائدة اعتبار الجزئي بعد حصول العلم بالكلي ؟

              فالجواب أن هذا صحيح على الجملة ، وأما في التفصيل فغير صحيح ، فإنه إن علم أن الحفظ على الضروريات معتبر فلم يحصل العلم بجهة الحفظ المعينة ، فإن للحفظ وجوها قد يدركها العقل ، وقد لا يدركها ، وإذا أدركها ، فقد يدركها بالنسبة إلى حال دون حال ، أو زمان دون زمان ، أو عادة دون عادة فيكون اعتبارها على الإطلاق خرما للقاعدة نفسها كما قالوا في القتل بالمثقل إنه لو لم يكن فيه قصاص لم ينسد باب القتل بالقصاص إذا اقتصر [ ص: 178 ] به على حالة واحدة ، وهو القتل بالمحدد ، وكذلك الحكم في اشتراك الجماعة في قتل الواحد ، ومثله القيام في الصلاة مثلا مع المرض ، وسائر الرخص [ ص: 179 ] الهادمة لعزائم الأوامر والنواهي إعمالا لقاعدة الحاجيات في الضروريات ، ومثل ذلك المستثنيات من القواعد المانعة كالعرايا والقراض والمساقاة والسلم والقرض ، وأشباه ذلك .

              فلو اعتبرنا الضروريات كلها لأخل ذلك بالحاجيات ، أو بالضروريات أيضا فأما إذا اعتبرنا في كل رتبة جزئياتها كان ذلك محافظا على تلك الرتبة ، وعلى غيرها من الكليات ، فإن تلك المراتب الثلاث يخدم بعضها بعضا ، ويخص بعضها بعضا ، فإذا كان كذلك ، فلا بد من اعتبار الكل في مواردها ، وبحسب أحوالها .

              وأيضا فقد يعتبر الشارع من ذلك ما لا تدركه العقول إلا بالنص عليه ، [ ص: 180 ] وهو أكثر ما دلت عليه الشريعة في الجزئيات; لأن العقلاء في الفترات قد كانوا يحافظون على تلك الأشياء بمقتضى أنظار عقولهم ، لكن على وجه لم يهتدوا به إلى العدل في الخلق والمناصفة بينهم ، بل كان مع ذلك الهرج واقعا والمصلحة تفوت مصلحة أخرى ، وتهدم قاعدة أخرى ، أو قواعد فجاء الشرع باعتبار المصلحة والنصفة المطلقة في كل حين وفي كل حال ، وبين من المصالح ما يطرد ، وما يعارضه وجه آخر من المصلحة كما في استثناء العرايا ، ونحوه فلو أعرض عن الجزئيات بإطلاق لدخلت مفاسد ولفاتت مصالح ، وهو مناقض لمقصود الشارع ؛ ولأنه من جملة المحافظة على الكليات ; لأنها يخدم بعضها بعضا ، وقلما تخلو جزئية من اعتبار القواعد الثلاث فيها ، وقد علم أن بعضها قد يعارض بعضا فيقدم الأهم حسبما هو مبين في كتاب الترجيح والنصوص والأقيسة المعتبرة تتضمن هذا على الكمال .

              فالحاصل أنه لا بد من اعتبار خصوص الجزئيات مع اعتبار كلياتها ، وبالعكس ، وهو منتهى نظر المجتهدين بإطلاق ، وإليه ينتهي طلقهم في مرامي الاجتهاد ، وما قرر في السؤال على الجملة صحيح; إذ الكلي لا ينخرم بجزئي ما ، [ ص: 181 ] والجزئي محكوم عليه بالكلي ، لكن بالنسبة إلى ذات الكلي والجزئي لا بالنسبة إلى الأمور الخارجة ، فإن الإنسان مثلا يشتمل على الحيوانية بالذات ، وهي التحرك بالإرادة ، وقد يفقد ذلك لأمر خارج من مرض ، أو مانع غيره فالكلي صحيح في نفسه ، وكون جزئي من جزيئاته منعه مانع من جريان حقيقة الكلي فيه أمر خارج ولكن الطبيب إنما ينظر في الكلي بحسب جريانه في الجزئي ، أو عدم جريانه ، وينظر في الجزئي من حيث يرده إلى الكلي بالطريق المؤدي لذلك فكما لا يستقل الطبيب بالنظر في الكلي دون النظر في الجزئي من حيث هو طبيب ، وكذلك بالعكس فالشارع هو الطبيب الأعظم ، وقد جاء في الشريعة في العسل أن فيه شفاء للناس ، وتبين للأطباء أنه شفاء من علل كثيرة ، وأن فيه أيضا ضررا من بعض الوجوه حصل هذا بالتجربة العادية التي أجراها الله في هذه الدار فقيد العلماء ذلك كما اقتضته التجربة بناء على قاعدة كلية ضرورية من قواعد الدين ، وهي امتناع أن يأتي في الشريعة خبر بخلاف مخبره مع أن النص لا يقتضي الحصر في أنه شفاء فقط فأعملوا القاعدة الشرعية الكلية ، وحكموا بها على الجزئي واعتبروا الجزئي أيضا في غير الموضع [ ص: 182 ] المعارض; لأن العسل ضار لمن غلبت عليه الصفراء فمن لم يكن كذلك فهو له شفاء ، أو فيه له شفاء ولا يقال : إن هذا تناقض; لأنه يؤدي إلى اعتبار الجزئي ، وعدم اعتباره معا; لأنا نقول : إن ذلك من جهتين ولأنه لا يلزم أن يعتبر كل جزئي ، وفي كل حال ، بل المراد بذلك أنه يعتبر الجزئي إذا لم تتحقق استقامة الحكم بالكلى فيه كالعرايا ، وسائر المستثنيات ، ويعتبر الكلي في تخصيصه للعام [ ص: 183 ] الجزئي ، أو تقييده لمطلقه ، وما أشبه ذلك بحيث لا يكون إخلالا بالجزئي على الإطلاق ، وهذا معنى اعتبار أحدهما مع الآخر ، وقد مر منه أمثلة في أثناء المسائل ، فلا يصح إهمال النظر في هذه الأطراف ، فإن فيها جملة الفقه ، ومن عدم الالتفات إليها أخطأ من أخطأ ، وحقيقته نظر مطلق في مقاصد الشارع ، وأن تتبع نصوصه مطلقة ، ومقيدة أمر واجب .

              فبذلك يصح تنزيل المسائل على مقتضى قواعد الشريعة ، ويحصل منها صور صحيحة الاعتبار ، وبالله التوفيق .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية