الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          باب القضاء بإلحاق الولد بأبيه

                                                                                                          قال يحيى عن مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت كان عتبة بن أبي وقاص عهد إلى أخيه سعد بن أبي وقاص أن ابن وليدة زمعة مني فاقبضه إليك قالت فلما كان عام الفتح أخذه سعد وقال ابن أخي قد كان عهد إلي فيه فقام إليه عبد بن زمعة فقال أخي وابن وليدة أبي ولد على فراشه فتساوقا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال سعد يا رسول الله ابن أخي قد كان عهد إلي فيه وقال عبد بن زمعة أخي وابن وليدة أبي ولد على فراشه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هو لك يا عبد بن زمعة ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الولد للفراش وللعاهر الحجر ثم قال لسودة بنت زمعة احتجبي منه لما رأى من شبهه بعتبة بن أبي وقاص قالت فما رآها حتى لقي الله عز وجل

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          21 - باب القضاء بإلحاق الولد بأبيه

                                                                                                          1449 1413 - ( مالك ، عن ابن شهاب ، عن عروة بن الزبير ، عن عائشة زوج النبي أنها قالت : كان عتبة ) بضم المهملة وإسكان الفوقية ( ابن أبي وقاص ) مالك الزهري ، مات على شركه كما جزم به الدمياطي والسفاقسي وغيرهما ، قال في الإصابة : لم أر من ذكره في الصحابة إلا ابن منده ، واشتد إنكار أبي نعيم عليه في ذلك ، وقال : هو الذي كسر رباعية النبي يوم أحد ما علمت له إسلاما . بل روى عبد الرزاق من مرسل سعيد بن المسيب ومقسم بن عتبة : " أنه صلى الله عليه وسلم دعا على عتبة يومئذ أن لا يحول عليه الحول حتى يموت كافرا ، فما حال عليه الحول حتى مات كافرا إلى النار " . وروى الحاكم بإسناد فيه مجاهيل عن حاطب بن أبي بلتعة : " أنه لما رأى ما فعل عتبة قال : يا رسول الله : من فعل بك هذا ؟ قال عتبة . قلت : أين توجه ؟ فأشار إلى حيث توجه ، فمضيت حتى ظفرت به فضربته بالسيف فطرحت رأسه فنزلت فأخذت رأسه وسيفه وجئت إلى رسول الله ، فنظر إلى ذلك ودعا لي فقال : رضي الله [ ص: 48 ] عنك ، مرتين " . وهذا لا يصح لأنه لو قتل يومئذ كيف كان يوصي أخاه سعدا ؟ وقد يقال : لعله ذكر ذلك له قبل وقوع الحرب احتياطا ، وبالجملة فليس في شيء من الآثار ما يدل على إسلامه ، بل فيها ما يصرح بموته على الكفر فلا معنى لإيراده في الصحابة ، وقد استدل ابن منده بما لا دلالة فيه على إسلامه وهو قوله : كان عتبة بن أبي وقاص ( عهد ) بفتح العين وكسر الهاء ، أي أوصى ( إلى أخيه سعد بن أبي وقاص ) أحد العشرة وأول من رمى بسهم في سبيل الله وأحد من فداه صلى الله عليه وسلم بأبيه وأمه . روى ابن إسحاق عنه : ما حرصت على قتل رجل قط حرصي على قتل أخي عتبة ; لما صنع برسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولقد كفاني منه قوله صلى الله عليه وسلم : اشتد غضب الله على من دمى وجه رسوله .

                                                                                                          ( أن ابن وليدة ) بفتح الواو وكسر اللام ، أي جارية ( زمعة ) بفتح الزاي وسكون الميم وقد تفتح ، وصوبه الوقشي . وزمعة بن قيس العامري والد سودة أم المؤمنين ولم تسم الوليدة ، نعم ، ذكر مصعب الزبيري وابن أخيه الزبير بن بكار في نسب قريش أنها كانت أمة يمانية وأما ابنها فصحابي صغير ، قال ابن عبد البر : لم يختلف النسابون أن اسمه عبد الرحمن . قال في الإصابة : وخلط ابن منده وتبعه أبو نعيم في نسبه فجعلاه من بني أسد بن عبد العزى ، وليس كذلك ، ووهم ابن قانع فجعله المخاصم لسعد بن أبي وقاص وكأنه انقلب عليه فإنه المخاصم فيه لا المخاصم فإنه عبد بغير إضافة بلا نزاع ( مني ) أي ابني ( فاقبضه ) بهمزة وصل وكسر الموحدة ( إليك ) وأصل هذه القصة أنه كانت لهم في الجاهلية إماء يزنين وكانت ساداتهن تأتيهن في خلال ذلك ، فإذا أتت إحداهن بولد فربما يدعيه السيد وربما يدعيه الزاني ، فإن مات السيد ولم يكن ادعاه ولا أنكره فادعاه ورثته لحق به إلا أنه لا يشارك مستلحقه في ميراثه إلا أن يستلحقه قبل القسمة ، وإن كان أنكره السيد لم يلحق به ، وكان لزمعة بن قيس أمة على ما وصف وعليها ضريبة وهو يلم بها فظهر بها حمل كان يظن أنه من عتبة أخي سعد ، فعهد عتبة إلى أخيه سعد قبل موته أن يستلحق الحمل الذي بأمة زمعة . ( قالت ) عائشة ( فلما كان عام الفتح ) لمكة ، برفع عام ، اسم كان ، وفي رواية بنصبه بتقدير في ( أخذه سعد وقال ) هو ( ابن أخي ) عتبة ، وفي رواية معمر عن الزهري : فلما كان يوم الفتح رأى سعد الغلام فعرفه بالشبه فاحتضنه إليه وقال : ابن أخي ورب الكعبة ( قد كان عهد ) أوصى ( إلي فيه ) فاحتج باستلحاق عتبة على عادة الجاهلية ( فقام إليه عبد ) بلا إضافة ( ابن زمعة ) بن قيس القرشي العامري ، أسلم يوم الفتح ، روى ابن أبي عاصم بسند حسن عن عائشة : " تزوج صلى الله عليه وسلم سودة بنت زمعة ، فجاء أخوها عبد [ ص: 49 ] بن زمعة من الحجر فجعل يحثو التراب على رأسه ، فقال بعد أن أسلم : إني لسفيه يوم أحثو التراب على رأسي أن تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بسودة أختي " . قال ابن عبد البر : كان من سادات الصحابة رضي الله عنهم ( فقال : أخي وابن وليدة أبي ) أي جاريته ( ولد على فراشه ) من أمته المذكورة ، كأنه سمع أن الشرع أثبت حكم الفراش فاحتج به ، وقد كانت عادة الجاهلية إلحاق النسب بالزنى وكانوا يستأجرون الإماء للزنى ، فمن اعترفت الأم أنه له لحق ، ولم يقع إلحاق ابن وليدة زمعة في الجاهلية ; إما لعدم الدعوى ، وإما لأن الأمة لم تعترف لعتبة ، وقيل : كانت موالي الولائد يخرجوهن للزنى ويضربون عليهن الضرائب ، وكانت وليدة زمعة كذلك . قال الحافظ : والذي يظهر من سياق القصة أنها كانت أمة مستفرشة لزمعة فزنى بها عتبة ، وكانت عادة الجاهلية في مثل ذلك أن السيد إذا استلحقه لحقه وإن نفاه انتفى عنه وإن ادعاه غيره رد ذلك إلى السيد أو القافة ، فظهر بها حمل ظن أنه من عتبة فاختصم فيها ( فتساوقا ) أي تدافعا بعد تخاصمهما وتنازعهما في الولد ، أي ساق كل منهما صاحبه فيما ادعاه ( إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال سعد : يا رسول الله ) هذا ( ابن أخي ) عتبة ( قد كان عهد إلي ) بشد الياء ( فيه ) وللقعنبي : عهد إلي أنه ابنه . زاد في رواية الليث : انظر إلى شبهه ( وقال عبد بن زمعة : هو أخي وابن وليدة أبي ولد على فراشه ) وللقعنبي : فنظر صلى الله عليه وسلم إلى ابن وليدة زمعة ، فإذا هو أشبه الناس بعتبة بن أبي وقاص ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هو لك ) زاد القعنبي : هو أخوك ( يا عبد بن زمعة ) بضم الدال على الأصل ، ويروى بفتحها ونصب نون ابن على الوجهين ، وسقط في رواية النسائي أداة النداء فبنى على ذلك بعض الحنفية فقال : إنما ملكه إياه لأنه ابن أمة أبيه لا أنه ألحقه به ، قال عياض : وليس كما زعم فالرواية إنما هي بالياء ، وعلى تسليم إسقاطها فعبد هنا علم والعلم يحذف منه حرف النداء ، ومنه : ( يوسف أعرض عن هذا ) ( سورة يوسف : الآية 29 ) اهـ .

                                                                                                          ورواية القعنبي صريحة في رد هذا الزعم ، ولذا قالت طائفة : هو لك ، أي هو أخوك كما ادعيت . قضى في ذلك بعلمه لأن زمعة كان صهره ففراشه كان معروفا عنده صلى الله عليه وسلم لا بمجرد دعوى عبد على أبيه بذلك ، ولم يثبت إقراره به ولا تقبل دعوى أحد على غيره ولا لاستلحاق عبد له ; لأن الأخ لا يصلح استلحاقه عند الجمهور ، وفي القضاء بالعلم خلاف ، قاله ابن عبد البر ، على أن من خصائصه صلى الله عليه وسلم الحكم بعلمه . وقال الطحاوي : معنى هو لك ، أي بيدك تمنع منه من سواك [ ص: 50 ] كما قال في اللقطة : هي لك ، أي بيدك تدفع غيرك عنها حتى يأتي صاحبها لا على أنها ملك ، ولا يجوز أن ينسب له صلى الله عليه وسلم أن يجعله ابنا لزمعة ثم يأمر أخته أن تحتجب منه ، ولما كان لعبد شريك فيما ادعاه وهو أخته ولم يعلم منها تصديقه ألزم عبدا ما أقر به على نفسه دون أخته ; إذ لم تصدقه فلم يجعله أخا لها وأمرها بالاحتجاب منه . اهـ . وفيه نظر لأنه خلاف المتبادر ، ونص زيادة القعنبي : هو أخوك ، وقياسها على اللقطة فاسد ; لأنها ملك للغير بخلاف هذا ، وقوله : ولا يجوز . . . إلخ ، ممنوع وسنده أن للزوج منع زوجته من رؤية أخيها ، وكذا قوله : لم يصدقه ، فإنه أقر قوله : أخي وابن وليدة أبي ، وقال : هو لك هو أخوك .

                                                                                                          وقال ابن جرير : أي هو لك عبد ابن أمة أبيك ، فكل أمة ولدت من غير سيدها فولدها عبد . قال أبو عمر : يريد لأنه لم ينقل في الحديث اعتراف سيدها بأنه كان يلم بها ولا شهد به عليه ، والأصول تدفع قول ابنه عليه فلم يبق إلا القضاء بأنه عبد تبعا لأمه ، لكنه خلاف ظاهر الحديث لأنه صلى الله عليه وسلم لم ينكر قوله : أخي وابن وليدة أبي . اهـ . وأيضا فيرده زيادة القعنبي فإنها زيادة ثقة غير منافية فتقبل ، وقد خرجها البخاري . وقال الباجي : لا يصح بعد الإقرار بالأخوة إرادة ما قاله الطبري ، وقوله : هو لك يا عبد ، ليس فيه أنه ألحقه بزمعة لأنه لم يضفه إليه ، وإنما أضافه إلى عبد لأنه أقر بحريته وأخوته فقال له : أنت أعلم بما تدعيه فيما يخصك ، وعبد انفرد بميراث زمعة لأنهما كانا كافرين وسودة أخته مسلمة ، فلا يحل لعبد بيعه ولا يثبت بذلك بنوته لزمعة . وقال المزني : يحتمل وهو الأصح عندي أنه صلى الله عليه وسلم أجاب عن المسألة فأعلمهم أن الحكم كذلك إذا ادعى صاحب فراش وصاحب زنى ; لأنه ما قبل على عتبة قول أخيه سعد ولا على زمعة أنه أولدها هذا الولد لأن كل واحد منهما أخبر عن غيره ، والإجماع على أنه لا يقبل إقرار أحد على غيره ، وقد حكى الله مثل ذلك في قصة داود والملائكة : ( إذ دخلوا على ) ( سورة ص : الآية 22 ) الآية ، ولم يكونوا خصمين ولا كان لأحدهما تسع وتسعون نعجة ، ولكنهم كلموه على المسألة ليعرف بها ما أرادوا تعريفه ، واعترضه ابن عبد البر بأن الحكم على المسألة حكم فيما دنا فيه التنازع بين يديه صلى الله عليه وسلم . وابن العربي : بأنه كيف يقال لم يحكم بينهم وقد مكن عبدا من أخوة الغلام ؟ ( ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الولد للفراش ) ( ال ) للعهد ، أي الولد للحالة التي يمكن فيها الافتراش ، أي تأتي الوطء ، فالحرة فراش بالعقد عليها مع إمكان الوطء والحمل فلا ينتفي عن زوجها سواء أشبهه أم لا ، وتجري بينهما الأحكام من إرث وغيره ، إلا بلعان ، والأمة إن أقر سيدها بوطئها أو ثبت ببينة عند الحجازيين ، وقال الكوفيون : إن أقر بالولد . وقدروا مضافا ، أي صاحب الفراش وهو الزوج ، واحتجوا بقول جرير :

                                                                                                          [ ص: 51 ]

                                                                                                          باتت تعانقه وبات فراشها خلق العباءة في الدماء قتيلا

                                                                                                          .

                                                                                                          أي صاحب فراشها يعني زوجها .

                                                                                                          قال عياض : والفراش وإن صح التعبير به عن الزوج والزوجة فإن المراد هنا الفراش المعهود كما مر ، وقد قيل أي وجزم به الباجي أن إطلاق الفراش على الزوج لا يعرف في اللغة . المازري : والفرق بين الحرة والأمة في ذلك أن الحرة لما كانت لا تراد إلا للوطء جعل العقد عليها بمنزلة الوطء ، والأمة تشترى لوجوه كثيرة فلا تكون فراشا حتى يثبت الوطء ، قال : وشذ أبو حنيفة في الأمة فقال : لا تكون فراشا إلا بولد استلحقه فما تلده بعده فهو له إن لم ينفه ، واحتج بأن الأمة لو صارت فراشا بالوطء لصارت فراشا بالملك ، وتعلق بها أحكام الحرة على صاحب الفراش . وما قاله لا يصح ; لأن الحرة لما لم ترد للوطء جعل الشرع العقد فيها بمنزلة الوطء بخلاف الأمة ، وتنازع الفريقان الحديث ، فقال المالكية وموافقوهم : هو رد على الحنفية فإنه ألحق الولد بزمعة ولم يثبت أنها ولدت منه قبل ذلك . وقالت الحنفية : هو يرد عليكم لأنه ألحقه بزمعة ولم يذكر أنه اعترف بوطئها . والجواب حمله على أن زمعة عرف وطؤه لها باعترافه عنده صلى الله عليه وسلم أو باستفاضة ، وهذا التأويل اضطرنا إليه ما ذكرتم من اتفاقنا جميعا على منع إلحاق الولد بأبيه إلا أن يثبت سببه ، واختلفا في السبب فقلنا : ثبوت الوطء . وقلتم : استلحاق ولد سابق . ومعلوم أنه لم يكن ولد سابق ، وثبوت الوطء لا يعلم عدمه فامتنع تأويلكم وأمكن تأويلنا فوجب حمل الحديث عليه . اهـ . ثم اللفظ عام ورد على سبب خاص والمعتبر عمومه عند الأكثر نظرا لظاهر اللفظ ، وقيل : يقصر على السبب لوروده فيه وهو ساكت عن غيره ، وصورة السبب التي ورد عليها العام قطعية الدخول فيه عند الأكثر لوروده فيها فلا تخص منه بالاجتهاد . قال التقي السبكي : وهذا ينبغي عندي أن يكون إذا دلت قرائن حالية أو مقالية على ذلك أو على أن اللفظ العام يشمله بطريق لا محالة وإلا فقد ينازع الخصم في دخوله وضعا تحت اللفظ العام ، ويدعي أنه قد يقصد المتكلم بالعام إخراج السبب وبيان أنه ليس داخلا في الحكم ، فإن الحنفية القائلين أن ولد الأمة المستفرشة لا يلحق سيدها ما لم يقر به نظرا إلى أن الأصل في الإلحاق الإقرار ، لهم أن يقولوا في قوله صلى الله عليه وسلم : " الولد للفراش " . وإن كان واردا في أمة فهو وارد لبيان حكم ذلك الولد ، وبيان حكمه إما بالثبوت أو بالاتفاق ، فإذا ثبت أن الفراش هي الزوجة لأنها التي يتخذ لها الفراش غالبا ، وقال : " الولد للفراش " كان فيه حصر أن الولد للحرة ، وبمقتضى ذلك لا يكون للأمة ، فكان فيه بيان الحكمين جميعا ، نفي النسب عن السبب وإثباته لغيره ، ولا يليق دعوى القطع هنا وذلك من جهة اللفظ ، وهذا في الحقيقة نزاع في أن اسم الفراش هل هو موضوع للحرة والأمة الموطوءة ، أو للحرة فقط ؟ فالحنفية يدعون [ ص: 52 ] الثاني فلا عموم عندهم له في الأمة ، فتخرج المسألة حينئذ من باب أن العبرة بعموم اللفظ أو بخصوص السبب . نعم ، تركيب الحديث يقتضي أنه ألحقه به على حكم السبب فيلزم أن يكون مرادا من قوله للفراش فليتنبه لهذا البحث فإنه نفيس جدا . وبالجملة فهذا أصل في إلحاق الولد بصاحب الفراش وإن طرأ عليه وطء محرم . اهـ . ( وللعاهر ) الزاني ، اسم فاعل من عهر الرجل المرأة : إذا أتاها للفجور ، وعهرت هي وتعهرت : إذا زنت ، والعهر : الزنى ، ومنه الحديث : " اللهم أبدل العهر بالعفة " . قاله عياض ( الحجر ) أي الخيبة ولا حق له في الولد ، والعرب تقول في حرمان الشخص : له الحجر وبفيه التراب ونحو ذلك ، ويريدون ليس له إلا الخيبة ، وقيل : هو على ظاهره ، أي الرجم بالحجارة ، وضعف بأنه ليس كل زان يرجم بل المحصن ، وأيضا فلا يلزم من رجمه نفي الولد ، والحديث إنما هو في نفيه عنه . وقال الباجي : يريد الرجم وإن كان لا يرجم زاني المشركين ، لكن اللفظ خرج على العموم ، ولما قصد عيب الزنى أخبر بأشد أحكامه .

                                                                                                          لطيفة : كان أبو العينا الشاعر الأعمى كثير الدعابة وشديد الانتزاع من الآيات والأحاديث ، فولد له ولد فأتى بعض من يريد دعابته فهنأه بالولد ووضع بين يديه حجرا وذهب ، فلما تحرك أبو العينا وجد الحجر بين رجليه فقال : من وضع هذا ؟ فقيل : فلان ، فقال : عرض بي والله ابن الفاعلة ، قال صلى الله عليه وسلم : " الولد للفراش وللعاهر الحجر " .

                                                                                                          وله سبب غير قصة ابن زمعة ، روى أبو داود وغيره من طريق حسين المعلم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : " لما فتحت مكة قام رجل فقال : إن فلانا ابني ، فقال صلى الله عليه وسلم : لا دعوة في الإسلام ، ذهب أمر الجاهلية ، الولد للفراش وللعاهر الأثلب ، قيل : وما الأثلب ؟ قال : الحجر " . وسقط قوله : وللعاهر الحجر ، من رواية ابن عيينة عن الزهري . هذا الحديث قال ابن عبد البر : والقول قول مالك وقد أتقنه وجوده ، وهذه اللفظة ثابتة عند ابن عيينة عن ابن شهاب عن سعيد وأبي سلمة عن أبي هريرة .

                                                                                                          ( ثم قال ) صلى الله عليه وسلم ( لسودة بنت زمعة ) أم المؤمنين ( احتجبي منه ) أي من عبد الرحمن ( لما ) بكسر اللام وخفة الميم ، أي لأجل ما ( رأى ) وللتنيسي : رآه ( من شبهه ) البين ( بعتبة بن أبي وقاص ، قالت ) عائشة ( فما رآها ) عبد الرحمن ( حتى لقي الله عز وجل ) أي مات . قال عياض وغيره : قيل هو على وجه الندب لا سيما في حق أزواجه صلى الله عليه وسلم ، وتغليظ أمر الحجاب عليهن وزيادتهن فيه على غيرهن . قال القرطبي : فهو كقوله لأم سلمة وميمونة وقد دخل عليهما ابن أم مكتوم : " احتجبا منه ، فقالتا : إنه [ ص: 53 ] أعمى ، فقال : أفعمياوان أنتما ألستما تبصرانه ؟ " . وقال لفاطمة بنت قيس : انتقلي إلى بيت ابن أم مكتوم تضعين ثيابك عنده فإنه لا يراك . فأباح لها ما منعه لأزواجه . وقال المزني : لو ثبت أنه أخوها ما أمرها أن تحتجب منه ; لأنه بعث بصلة الأرحام . وقد قال لعائشة في عمها من الرضاعة : " إنه عمك فليلج عليك " . ولكنه لم يصح أنه أخوها لعدم البينة وإقرار من يلزمه إقراره ، وزاده بعدا في القلوب شبهه بعتبة ، أمرها بالاحتجاب . قال في الاستذكار : وجواب المزني هذا أصح في النظر وأجرى على القواعد من قول سائر أصحاب الشافعي أنه أخوها لأنه ألحقه بفراش زمعة وقضى بالولد للفراش ، وما حكم به فهو الحق لا شك فيه ، ولكنه بين بأمرها بالاحتجاب حكما آخر أنه يجوز للرجل أن يمنع زوجته من رؤية أخيها . وقال الكوفيون : جعل للزنى حكم التحريم فمنعها من رؤية أخيها في الحكم لأنه ليس بأخيها في غير الحكم لأنه من زنى في الباطن . وهذا قول فاسد لأنهم نسبوا له أنه جعله أخاها من وجه وغير أخيها من وجه ، وهذا لا يعقل ولا يجوز إضافته إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وكيف يحكم بشبه عتبة في الباطن وقد قال في الملاعنة : إن جاءت به على شبه الذي رميت به فهو له ، فجاءت به كذلك فلم يلتفت إليه وأمضى حكم الله فيه . وفي التمهيد : وقالت طائفة كان ذلك منه لقطع الذريعة بعد حكمه بالظاهر فكأنه حكم بحكمين : حكم ظاهر وهو الولد للفراش ، وحكم باطن وهو الاحتجاب لأجل الشبه ، كأنه قال لسودة : ليس لك بأخ إلا في حكم الله بأن الولد للفراش فاحتجبي منه لشبهه بعتبة . وقال ذلك بعض أصحاب مالك وضارع فيه قول العراقيين . اهـ . وقال الباجي : ليس هذا من معنى الذرائع ، وإنما هو لو صح ما تأوله من تغليب الحظر على الإباحة وهو وجه قال به كثير من العلماء كالأمة بين شريكين تحرم على كل منهما تغليبا للحظر ، وقد وقع في مسند أحمد وسنن النسائي أنه صلى الله عليه وسلم قال لسودة : ليس لك بأخ . وقال المنذري : إنها زيادة لم تثبت ، وأعلها البيهقي وقال : معنى قوله " ليس لك بأخ " أي شبها ، فلا يخالف قوله لعبد " هو أخوك " . قال في الفتح : أو معناه بالنسبة للميراث من زمعة لأنه مات كافرا وخلف عبد بن زمعة والولد المذكور وسودة فلا حق لها في إرثه ، بل حازه عبد قبل الاستلحاق ، فإذا استلحق الابن المذكور شاركه في الإرث دون سودة ، فلذا قال : لعبد هو أخوك ، وقال لسودة : ليس لك بأخ . اهـ . واحتج الشافعي وموافقوه بالحديث على صحة استلحاق الأخ لأخيه إذا لم يكن وارث غيره ; لأن زمعة لم يستلحق ولا اعترف بالوطء فليس إلا استلحاق أخيه ، وأبى ذلك مالك والجمهور لأن فيه إثبات حقوق على الأب بغير إقراره ، وقد أبى الله ذلك ورسوله ، قال تعالى : ( ولا تزر وازرة وزر أخرى ) ( سورة فاطر : الآية 18 ) وقال لأبي رمثة في ابنه : " إنك لا تجني عليه ولا [ ص: 54 ] يجني عليك " . قال عياض : والجواب أنه بقي وجه ثالث وهو أن يكون ثبت عنده وطء زمعة باستفاضة أو غيرها ، فلا يحتاج إلى اعتراف ، وإنما يصعب هذا على الحنفية القائلين : لا يثبت الفراش إلا بولد سابق ولا ولد سابق هنا وأيضا فإن هذا القائل يشترط أن لا يكون وارث غيره ، فإن كان فحتى يوافقه جميع الأولاد وعبد ثم وارث غيره وهي سودة ولم تستلحق معه فسقط تعلقه بالحديث .

                                                                                                          وأجاب أصحابه بأن زمعة مات كافرا وسودة مسلمة لا ترث منه ، فصارت كالعدم وعبد كأنه كل الورثة ، ورده أصحابنا بأنها وإن منعت الميراث فهي ابنته فلا بد من رضاها إذ لا يلحق أخوها عليها من لم ترضه . قال : واحتج به أحمد والثوري والأوزاعي والكوفيون أن الزنى يحرم الحلال ، وجعلوا الأمر بالاحتجاب واجبا ، وهو أحد قولي مالك ، والصحيح من قوله وقول الشافعي أن الزنى لا يحرم حلالا إلا ما جرى من قولهم لا يحل للزاني نكاح من خلقت من مائه الفاسد ، وأحلها ابن الماجشون طردا للأصل وإبطالا لحكم الحرام . اهـ . قال ابن العربي : القائلون بوجوب احتجابها لا يليق بمراتبهم لا سيما المزني في جعله أنه صلى الله عليه وسلم لم يحكم بينهم ، وقد مكن عبدا من أخوة الغلام وحجب سودة عن الخلطة المختصة بالأخوة ولم يراع شبها ولو راعاه لراعاه في الإلحاق . واحتج به بعض المالكية لقاعدة من قواعدهم أن الفرع إذا أشبه أصلين ودار بينهما يعطى حكما بين حكمين ; إذ لو أعطي حكم أحدهما لزم إلغاء شبهه بالآخر والفرض أنه أشبهه ، وبيانه من الحديث أنه أعطي حكم الفراش فألحق النسب ولم يمحضه فأمرها بالاحتجاب للشبه ، ولم يمحضه فألحق الولد للفراش ، واعترضه ابن دقيق العيد بأن صورة النزاع في القاعدة إنما هي إذا دار الفرع بين أصلين شرعيين يقتضي الشرع إلحاقه بكل منهما ، والشبه هنا لا يقتضي الشرع إلحاقه بعتبة فأمرها بالاحتجاب احتياطا وإرشادا إلى مصلحة وجودية لا على الوجوب بالحكم الشرعي . اهـ . ورواه البخاري في البيع عن يحيى بن قزعة ، وفي الوصايا وفتح مكة عن القعنبي ، وفي الفرائض عن عبد الله بن يوسف ، وفي الأحكام عن إسماعيل ، الأربعة عن مالك به ، وتابعه الليث في الصحيحين وابن عيينة ومعمر عند مسلم ، ثلاثتهم عن ابن شهاب . قال ابن عبد البر : حديث الولد للفراش من أصح ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء عن بضعة وعشرين نفسا من الصحابة .




                                                                                                          الخدمات العلمية