الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          [ ص: 450 ] وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون بين الله تعالى في الآية التي قبل هذه الآيات أفضل ما يعامل البشر به بعضهم بعضا من الوصايا الثلاث ، التي لا يمكن شرح التعامل بها تفصيلا إلا بسفر كبير ، ولو عمل الناس بهذه الوصايا لصلحت أحوالهم ، ولم يجد الفساد إليهم سبيلا ، ثم قفى عليها بهذه الثلاث الآيات في الوصية باتقاء إفساد الشيطان ، أي جنسه لجنس البشر ، والمراد هنا شياطين الجن المستترة ، فالتناسب القريب بينهن وبين ما قبلهن المقابلة بين معاملة البشر ومعاملة الجن ، ومن فروعه التناسب بين الجاهلين ، أي السفهاء الذين أمرت الآية السابقة بالإعراض عنهم اتقاء لشرهم ، وبين الشياطين التي أمرت هذه الآيات بالاستعاذة بالله منهم اتقاء لشرهم ، وبعبارة أخرى ، اتقاء شر شياطين الإنس وشياطين الجن ، فإن الشيطان هو الشرير المفسد من الفريقين كما تقدم في سورة الأنعام ، ومن فسر آيات : هو الذي خلقكم من نفس واحدة ( 7 : 189 ) إلخ بما مر من أن شرك الأبوين فيما أتاهما الله من الولد الصالح كان بإغواء الشيطان يرجعون إليه في التناسب بين الآيات ، ويقولون : إن الآية بينت لنا أن وسوسة الشيطان لأبوينا كانت سبب ما وقع لهما من الشرك فيما آتاهما من الولد - والأولى إرجاع التناسب في هذه المسألة إلى ما بين في أوائل السورة من خلق آدم وحواء ووسوسة الشيطان لهما - وما بين في خواتيمها من الإرشاد إلى إتقاء نزغ الشيطان ومسه ، وهو ما أشرنا إليه في بدء سياق هذه الخاتمة .

                          قوله تعالى : وإما ينزغنك من الشيطان نزغ قال الراغب : النزغ دخول في أمر لإفساده . واستشهد له بقول يوسف عليه السلام : من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي ( 12 : 100 ) وفي الأساس : نزغه مثل نسفه إذا طعنه ونخسه . ومن " المجاز " نزغه الشيطان : كأنه ينخسه ليحثه على المعاصي . ونزغ بين الناس : أفسد بينهم بالحث على الشر اهـ . فالنزغ كالنسغ والنخس والنخز والنغز والنكز والوكز والهمز ألفاظ متقاربة المعنى ، وأصله إصابة الجسد برأس شيء محدد كالإبرة والمهماز والرمح أو ما يشبه المحدد كالإصبع ، والمراد من نزغ الشيطان إثارته داعية الشر والفساد في غضب أو شهوة حيوانية أو معنوية ، بحيث تقحم صاحبها إلى العمل بتأثيرها ، كما تنخس الدابة بالمهماز لتسرع .

                          [ ص: 451 ] وغلب استعماله في الشر فقط ، وإنما قال " ينزغنك نزغ " والمراد نازغ ; لأن إسناد الفعل إلى المصدر أبلغ ، والشيطان تقدم الكلام فيه وفي الجن مرارا ، أوسعها ما ورد في تفسير قوله تعالى : وإما ينسينك الشيطان ( 6 : 68 ) الآية ، وتفسير قوله تعالى : كالذي استهوته الشياطين في الأرض ( 6 : 71 ) الآية . وكلتاهما من سورة الأنعام ، وتفسير قصة آدم من هذه السورة الذي يناسب منها ما هنا ، وهو إغواء الناس بالوسوسة قوله تعالى حكاية عن الشيطان : قال فبما أغويتني ( 7 : 16 ) إلخ . وقوله تعالى : يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان ( 7 : 27 ) إلخ .

                          وملخص ما يجب اعتقاده أنه ثبت في وحي الله تعالى إلى رسله أن في عالم الغيب خلقا خفيا اسمه الشيطان لا تدركه حواسنا ، له أثر في أنفسنا ، فهو يتصل بها ، ويقوي داعية الشر فيها بما سماه الوحي وسواسا ونزغا ومسا ، ونحن نجد أثر ذلك في أنفسنا ، وإن لم ندرك مصدره ، وقد شبهنا تأثير هذه الشياطين الخفية في الأرواح بتأثير النسم الخفية المادية المسماة بالبكتريا أو بالميكروبات في الأجساد ، فقد مرت القرون التي لا يحصيها إلا رب العالمين ، والناس يجهلون هذه النسم الخفية ، ويجهلون فعلها لعجز الأبصار عن إدراكها بنفسها ، وعن رؤية فعلها لدقتها وتناهيها في اللطف والصغر ، إلى أن اخترعت في هذا العصر المرايا أو النظارات المكبرة التي ترى الجسم أضعاف أضعاف جرمه ، فبها رؤيت وعلم ما يحدث بسببها في المواد السائلة والرخوة ، وكل ذات رطوبة من التحول والتغيير ، كالاختمار والفساد وغيرها ومن الأمراض المعدية في الإنسان والحيوان كما فصلناه من قبل .

                          وحكمة إخبار الله تعالى إيانا على ألسنة رسله عليهم السلام بهذا العالم الغيبي المعادي لنا ، الضار بأرواحنا كضرر نسم الأمراض بأجسادنا ، أن نراقب أفكارنا وخواطرنا ولا نعقل عنها ، كما نراقب ما يحدث في أجسادنا من تغير في المزاج ، وخروج الصحة من الاعتدال ، فنبادر إلى علاجه - فمتى فطنا بميل من أنفسنا إلى الشر أو الباطل عالجناه بما وصفه الله تعالى لنا من العلاج في هذه الآية وهو قوله عز وجل : فاستعذ بالله إنه سميع عليم أي: فالجأ إلى الله وتوجه إليه; ليعيذك من شر هذا النزغ ، فلا يحملنك على ما يزعجك إليه من الشر ، الجأ إلى الله بقلبك ، وعبر عن ذلك بلسانك ، فقل : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، إنه تعالى سميع لما تقول ، عليم بما تتوجه إليه ، فهو يصرف عنك تأثير نزغه بتزيين الشر . ومن المجرب أن الالتجاء إلى الله تعالى وذكره بالقلب واللسان ، يصرف عن القلب وسوسة الشيطان ، [ ص: 452 ] فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون ( 16 : 98 ، 99 ) إلخ .

                          والخطاب في هذه الآية وأمثالها من آيات التشريع والتأديب موجه إلى كل ما مكلف يبلغه وأولهم الرسول صلى الله عليه وسلم ، ومن المفسرين من يقول : إنه هنا للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته . وقد تقدم الخلاف في ذلك في تفسير : وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان ( 6 : 68 ) الآية . فقد اختلف مفسروها في ترجيح توجيه الخطاب فيها . وذكرنا هنالك آية الأعراف هذه ، وأن ظاهر السياق فيها أن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، وإن كان يأتي فيه الوجوه الأخرى في مثلها ، ولكن نزغ الشيطان أقوى من إنسائه ومن مسه المبين في الآية التالية ، فالمختار عندي الآن عصمته صلى الله عليه وسلم منه ، وذكرت في الكلام هنالك حديث عائشة وابن مسعود في صحيح مسلم ما منكم أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن . قالوا : وإياك يا رسول الله ؟ قال : وإياي إلا أن الله أعانني عليه فأسلم وهو سياق طويل يراجع هنالك .

                          وقد ورد في سورة حم السجدة ( فصلت ) مثل هذه الآية بعد آية في معنى قوله : وأعرض عن الجاهلين في آخر الآية التي قبلها ، ولكن بتعريف السميع العليم ( 41 : 36 ) وقال صاحب الدرة في الفرق بينهما ما نصه : قوله تعالى : وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم ( 7 : 200 ) وقال في سورة حم السجدة ( فصلت ) وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم ( 41 : 36 ) للسائل أن يسأل فيقول : لأي معنى جاء في الآية من سورة الأعراف " سميع عليم " على لفظ النكرة ، وفي سورة حم السجدة معرفتين بالألف واللام مؤكدتين بـ " هو " ؟ ( والجواب ) أن يقال : إن الأول وقع في فاصلة ما قبلها من الفواصل أفعال جماعة أو أسماء مأخوذة من الأفعال من نحو قوله فتعالى الله عما يشركون ( 7 : 19 ) وبعده يخلقون ، وينصرون ، ويبصرون ، والجاهلين ، فأخرجت هذه الفاصلة بأقرب ألفاظ الأسماء المؤدية معنى الفعل أعني النكرة ، وكأن المعنى : استعذ بالله إنه يسمع استعاذتك ويعلم استجارتك ، والتي في سورة حم السجدة قبلها فواصل يسلك بها طريق الأسماء ، وهي ما في قوله تعالى : ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم ( 41 : 34 ، 35 ) فقوله : ولي حميم ليس من الأسماء التي يراد بها الأفعال ، وكذلك قوله : إلا ذو حظ عظيم ليس في الحظ معنى فعل ، فأخرج " سميع عليم " بعد الفواصل التي هي على سنن الأسماء على لفظ يبعد عن اللفظ الذي يؤدي معنى الفعل ، فكأنه قال : إنه هو الذي لا يخفى عليه [ ص: 453 ] مسموع ولا معلوم ، فليس القصد الإخبار عن الفعل كما كان في الأولى أنه يسمع الدعاء ويعلم الإخلاص ، فهذا فرق ما بين المكانين اهـ . فتأمله فإنه دقيق جدا .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية