الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          [ ص: 221 ] كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور

                          الكلام في الآيتين مستقل ، ووجه اتصال الآية الأولى منهما بما قبلها هو أن في التي قبلها تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم - عن تكذيب اليهود ، وغيرهم له ، ببيان طبيعة الناس في تكذيب الأنبياء السابقين وصبر أولئك على المجاحدة ، والمعاندة ، والكفر . وفي هذه تأكيد للتسلية ، كما قال الإمام الرازي : من حيث إن الموت هو الغاية ، وبه تذهب الأحزان ومن حيث إن بعده دارا يجازى فيها كل ما يستحق ، وقال الأستاذ الإمام : إنها تسلية أخرى ، كأنه يقول : لا تضجر ، ولا تسأم لما ترى من معاندة الكافرين ، فإن هذا منته ، وكل ما له نهاية فلا بد من الوصول إليه ، فالذي يصير إليه هؤلاء المعاندون قريب ، فيجازون على أعمالهم ، ولا تنتظر أن يوفوا جزاء عملهم السيئ كله في هذه الدار ، كما أن أجرك على عملك لا توفاه في هذه الحياة ، فحسبك ما أصبت من الجزاء الحسن ، وحسبهم ما أصيبوا ، وما يصابون به من الجزاء السيئ في الدنيا . واعلم أنه لا يوفى أحد جزاءه في هذه الدار لأن توفية الأجور إنما تكون في الآخرة .

                          قال : ويصح وصلها بما قبلها من قوله تعالى : ولا يحسبن الذين يبخلون إلخ . أي إن أولئك البخلاء الذين يمنعون الحقوق ، وأولئك المتجرئين على الله والظالمين لرسله والذين عاندوا خاتم النبيين - كل أولئك سيموتون كما يموت غيرهم ، ويوفون أجورهم يوم القيامة - وكذلك لا يحسبن أحد من المؤمنين الذين يقاومون هؤلاء ، ويلقون منهم في سبيل الإيمان ما يلقون أنهم يوفون أجورهم في الدنيا ، كلا ، إنهم إنما يوفون أجورهم يوم القيامة .

                          وأقول : إن الكلام في الآيتين هو تصريح بما في ضمن الآية السابقة من التسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولمن اتبعه ، والتفات إلى خطابهم ، فإن توفية الأجور متبادرة في الخير ، فهذه الآية تمهيد لما بعدها ليسهل على المسلمين وقع إنبائهم بما يبتلون به .

                          [ ص: 222 ] ثم قال - تعالى - : كل نفس ذائقة الموت والمعنى ظاهر يفهمه كل من يعرف العربية وهو : أن كل حي يموت ، فتذوق نفسه طعم مفارقة البدن الذي تعيش فيه ، ولكنهم أوردوا عليها إشكالات بحسب علوم الفلسفة التي تغلغلت اصطلاحاتها في كتب المسلمين ; لذلك قال الأستاذ الإمام : لكلمة نفس استعمالات يصح في بعض المواضع منها ما لا يصح في موضع آخر ، والمتبادر هنا أن المراد بالنفس ما به الحياة المعروفة في الحيوان ، ولا يصح أن تكون هنا بمعنى الذات ( أي فيقال : إنه يدخل في عمومها البارئ - تعالى - لإضافة لفظ النفس إليه - عز وجل ) ، واستشكلوا موت النفس مع أنها باقية ; لأنها تبعث يوم القيامة ، وإنما يبعث الموجود ، ولو عدمت النفس لما صح أن يقال : إنها تبعث ، وإنما كان يقال توجد .

                          وأجابوا عنه : كونها باقية لا ينافي كونها تذوق الموت ، فإن الذي يذوق هو الموجود ، والميت لا يذوق لأن الذوق شعور ، فالحالة المخصوصة التي هي مفارقة الروح للبدن إنما تشعر بها النفس ، وأما البدن فلا شعور له لأنه يموت ، ومن العبث ، والجهل البحث في تعريف الموت ، فالموت هو الموت المعروف لكل أحد ، وهناك جواب آخر أبسط من هذا وأظهر ، وهو أن الخطاب هنا على العرف المعهود في التخاطب المتبادر لكل عربي ، وهو أن كل حي يموت .

                          وإنما توفون أجوركم يوم القيامة وفاه أجره : أعطاه إياه وافيا بالعمل لم ينقصه منه شيئا ، ومهما نال الإنسان من أجر على عمله في الدنيا فإنه لا يوفاه إلا في الآخرة ، والقيامة يوم يقوم الناس لرب العالمين في الحياة التي بعد الموت . واستدل بالآية من ينكر عذاب القبر ونعيمه ، أي ما تذوقه هذه النفوس في البرزخ الذي بين هذه الحياة القصيرة ، وتلك الحياة الطويلة ، وهو ينسب إلى المعتزلة ، ولكن الزمخشري - وهو من أساطينهم - يرد استدلالهم ، قال في الكشاف : فإن قلت : فهذا يوهم نفي ما يروى من أن القبر روضة من رياض الجنة ، أو حفرة من حفر النار ، قلت : كلمة التوفية تزيل هذا الوهم ; لأن المعنى أن توفية الأجور وتكميلها يكون ذلك اليوم وما يكون قبل ذلك فبعض الأجور اهـ .

                          فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز زحزح عن النار : نحي وأبعد عنها ، واختطف دونهما قبل أن تلتهمه ، قال في الكشاف : الزحزحة تكرير الزح ، وهو الجذب بعجلة ، والذي يهم بمواقعها مرة بعد مرة ( لما في نفسه من الشوائب التي تجذب إليها ) فينحى عنها في كل مرة ( بغلبة تأثير حسناته المضاعفة على سيئاته ) إلى أن يدخل الجنة فائزا فوزا عظيما .

                          [ ص: 223 ] وذكر الفوز مطلقا غير متعلق به شيء يفيد أنه الفوز العظيم الذي يشمل كل ما يطلبه المرء من سلامة من مكروه ، وفوز بمحبوب ، وناهيك بالسلامة من النار ، والفوز بالنعيم الدائم في دار القرار .

                          الأستاذ الإمام : ذكر توفية الأجور ، ثم بين ذلك بأبلغ عبارة موجزة إيجازا معجزا فأعلم أن هنالك جنة ونارا ، وأن من الناس من يلقى في تلك ومنهم من يدخل في هذه ، وأبان عظيم هول النار ، وشدتها بالتعبير عن النجاة عنها بالزحزحة كأن كل شخص كان مشرفا على السقوط فيها ، وأن مجرد الزحزحة عنها فوز كبير ، وفيه إيماء إلى أن أعمال الناس سائقة لهم إلى النار ; لأنها حيوانية في الغالب حتى لا يكاد يدخل أحد الجنة إلا بعد أن يكون زحزح عما كان صائرا إليه من السقوط في النار ، أما هؤلاء المزحزحون فهم الذين غلبت في نفوسهم الصفات الروحية على الصفات الحيوانية فأخلصوا في إيمانهم ، وفي أعمالهم ، وجاهدوا في الله حق جهاده حتى لم يبق في نفوسهم شائبة من إشراك غير الله في عمل من الأعمال . أفاد هذا الإيجاز كل هذه المعاني ، ولم يحتج في هذه الآية إلى مثل ما ذكر في آيات أخرى من وصف الجنة والنار لما يقتضيه السياق هنالك من الإطناب ، والتعريف بشيء من أمور عالم الغيب ، وعبر بالفاء في قوله : فمن زحزح للترتيب ، وبيان السبب . كذا كتبت عنه ، وكتبت بجانبه " وفيه نظر " ولعلي كنت أريد مراجعته فيه فنسيت ، والظاهر أن هذه الفاء عاطفة ، وفيها معنى الترتيب دون السبب ، وما بعدها تفصيل لتوفية الأجور .

                          وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور الدنيا صفة للحياة ، وهي مؤنث الأدنى ، والمتاع ما يتمتع به أي ينتفع به زمنا ممتدا امتدادا طويلا ، أو قصيرا لأنه من المتوع ، وهو الامتداد ، يقال متع النهار ومتع النبات : إذا ارتفع وامتد ، ويقال للآنية : متاع ، قال - تعالى - : ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع [ 13 : 17 ] وقال في إخوة يوسف : ولما فتحوا متاعهم [ 12 : 65 ] وهو الأوعية بما فيها من الميرة ، والطعام ، والغرور : الخداع ، وأصله إصابة الغرة أي الغفلة ممن تخدعه وتغشه . قال في الكشاف : شبه الدنيا بالمتاع الذي يدلس به على المستام ، ويغر حتى يشتريه ، ثم يتبين له فساده ورداءته .

                          الأستاذ الإمام : الحياة الدنيا هي السفلى ، أو القربى ، والمراد منها حياتنا هذه ، أي معيشتنا الحاضرة التي نتمتع فيها باللذات الحسية كالأكل ، والشرب ، أو المعنوية كالجاه ، والمنصب ، والسيادة ، هذه الحياة هي أقرب الحياتين ، وأدناهما ، وأحطهما ، وهي على كل حال متاع الغرور ; لأن صاحبها دائما مغرور مخدوع لها تشغله كل حين بجلب لذاتها ودفع آلامها ، فهو يتعب لما لا يستحق التعب ، ويشقى لتوهم السعادة ، ويتعب نقدا ليستريح نسيئة ، والعبارة جاءت بصيغة الحصر فهي تشمل حياة الأبرار الذين يصرفون أعمالهم في نفع الناس حبا بالخير ، وتقربا إلى الله - عز وجل - [ ص: 224 ] من حيث هم متمتعون فيها ، إما من حيث أن لذتهم فيما هم فيه قهرية ، وإما على معنى أنها لا بقاء لها ، أو يقال : إن ما كان من عمل الخير والطاعة ليس من متاع الدنيا ، والحصر بحسب ما عليه الغالب .

                          وأقول : حاصل معنى الجملة أن الدنيا ليست إلا متاعا من شأنه أن يغر الإنسان ويشغله عن تكميل نفسه بالمعارف الحقيقية ، والأخلاق المرضية التي ترقى بروحه فتعدها لسعادة الآخرة ، فينبغي له أن يحذر من الإسراف في الاشتغال بمتاعها عن نفسه ، فإن أي نوع منه قد يشغله وينسيه نفسه ، وإن لم يكن الاشتغال به ضروريا ، ولا من حاجات المعيشة المعتدلة ، أما ترى المغرمين فيها باللعب واللهو كالشطرنج ، والنرد ، وما في معناهما - وهو كثير في هذا الزمان - كيف يسرفون في حياتهم ، ويفنون أعمارهم بين جدران بيوت اللهو كالقهاوي والحانات . كل حزب بما لديهم فرحون ; لأنهم مغرورون مخدوعون إلا من وفقه الله لصرف معظم زمنه في علم يرقى به عقله ، وعبرة تتزكى بها نفسه ، وعمل صالح ينتفع به ، وينفع به عباد الله - تعالى - مع النية الصالحة ، والقلب السليم ، وما أحسن وصية الحلاج الأخيرة لمريده قبيل قتله : " عليك بنفسك إن لم تشغلها شغلتك " .

                          وليس لمتاع الدنيا غاية ينتهي العامل إليها فتسكن نفسه ، ويطمئن قلبه بل المزيد منه يغري بزيادة الإسراف في الطلب ، فلا ينتهي أرب منه إلا إلى أرب ، قال الشاعر :


                          فما قضى أحد منا لبانته ولا انتهى أرب إلا إلى أرب



                          فمن هدي الدين تنبيه الناس إلى ذلك حتى لا تغلب عليهم الحيوانية فيكونوا من الهالكين .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية