الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم ) . الرضوان : مصدر رضي ، وكسر رائه لغة الحجاز ، وضمها لغة تميم وبكر ، وقيس ، وغيلان . وقيل : الكسر للاسم ، ومنه : رضوان خازن الجنة ، والضم للمصدر .

السحر : بفتح الحاء ، وسكونها ، قال قوم منهم الزجاج : الوقت قبل طلوع الفجر ، ومنه يقال : تسحر أكل في ذلك الوقت ، واستحر : سار فيه قال .


بكرن بكورا واستحرت بسحرة فهن لوادي الرس كاليد للفم



واستحر الطائر : صاح وتحرك فيه قال :


يعل به برد أنيابها     إذا غرد الطائر المستحر



وأسحر الرجل واستحر : دخل في السحر قال :


وأدلج من طيبة مسرعا     فجاء إلينا وقد أسحرا



وقال بعض اللغويين السحر : من ثلث الليل الآخر إلى الفجر ، وجاء في بعض الأشعار عن العرب أن السحر يستمر حكمه فيما بعد الفجر . وقيل : السحر عند العرب يكون من آخر الليل ثم يستمر إلى الإسفار . وأصل السحر الخفاء للطفة ، ومنه السحر والسحر .

( قل أؤنبئكم بخير من ذلكم ) نزلت [ ص: 399 ] حين قال عمر عندما نزل : ( زين للناس ) يا رب الآن حين زينتها . ولما ذكر تعالى أن ( عنده حسن المآب ) ذكر المآب وأنه خير من متاع الدنيا ، لأنه خير خال من شوب المضار ; وباق لا ينقطع . والهمزة في : أؤنبئكم ، الأولى همزة الاستفهام دخلت على همزة المضارعة ، وقرئ في السبعة بتحقيق الهمزتين من غير إدخال ألف بينهما ، وبتحقيقهما ، وإدخال ألف بينهما ، وبتسهيل الثانية من غير ألف بينهما . ونقل ورش الحركة إلى اللام ، وحذف الهمزة . وبتسهيلها وإدخال ألف بينهما . وفي هذه الآية تسلية عن زخارف الدنيا ، وتقوية لنفوس تاركها ، وتشريف الالتفات من الغيبة إلى الخطاب ، ولما قال : ذلك متاع ، فأفرد ، جاء بخير من ذلكم ، فأفرد اسم الإشارة ، وإن كان هناك مشارا به إلى ما تقدم ذكره ، وهو كثير . فهذا مشار به إلى ما أشير بذلك ، وخير ، هنا أفعل التفضيل ، ولا يجوز أن يراد به خير من الخيور ، ويكون : من ذلكم ، صفة لما يلزم في ذلك من أن يكون ما رغبوا فيه بعضا مما زهدوا فيه .

( للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار ) يحتمل أن يكون للذين متعلقا بقوله : بخير من ذلكم ، وجنات ، خبر مبتدأ محذوف أي : هو جنات ، فتكون ذلك تبيينا لما أبهم في قوله : بخير من ذلكم ، ويؤيد ذلك قراءة يعقوب : جنات ، بالجر بدلا من : بخير ، كما تقول : مررت برجل زيد ، بالرفع ، وزيد بالجر ، وجوز في قراءة يعقوب أن يكون : جنات ، منصوبا على إضمار : أعني ، ومنصوبا على البدل على موضع بخير ، لأنه نصب . ويحتمل أن يكون : للذين ، خبرا لجنات ، على أن تكون مرتفعة على الابتداء ، ويكون الكلام تم عند قوله : بخير من ذلكم ، ثم بين ذلك الخير لمن هو ; فعلى هذا العامل في : عند ربهم ، العامل في : للذين ، وعلى القول الأول العامل فيه قوله : بخير .

( خالدين فيها وأزواج مطهرة ) تقدم تفسير هذا وما قبله .

( ورضوان من الله ) بدأ أولا بذكر المقر ، وهو الجنات التي قال فيها ( وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين ) " فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر " ثم انتقل من ذكرها إلى ذكر ما يحصل به الأنس التام من الأزواج المطهرة ، ثم انتقل من ذلك إلى ما هو أعظم الأشياء وهو رضا الله عنهم ، فحصل بمجموع ذلك اللذة الجسمانية والفرح الروحاني ، حيث علم برضا الله عنه ، كما جاء في الحديث أنه تعالى : " يسأل أهل الجنة هل رضيم ؟ فيقولون : ما لنا لا نرضى يا رب وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك ؟ فيقول : ألا أعطيكم أفضل من ذلك ؟ فيقولون : يا رب وأي شيء أفضل من ذلك ؟ قال : أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبدا . ففي هذه الآية الانتقال من عال إلى أعلى منه ، ولذلك جاء في سورة براءة ، قد ذكر تعالى الجنات والمساكن الطيبة فقال : ( ورضوان من الله أكبر ) يعنى : أكبر مما ذكر من الجنات والمساكن . وقال الماتريدي : أهل الجنة مطهرون ; لأن العيوب في الأشياء علم الفناء ، وهم خلقوا للبقاء ، وخص النساء بالطهر لما فيهن في الدنيا من فضل المعايب والأذى . وقال أبو بكر : ورضوان ، بالضم حيث وقع إلا في ثاني العقود ، فعنه خلاف . وباقي السبعة بالكسر ، وقد ذكرنا أنهما لغتان .

التالي السابق


الخدمات العلمية