الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 252 ] بسم الله الرحمن الرحيم

سورة المزمل

ليس لهذه السورة إلا اسم ( سورة المزمل ) عرفت بالإضافة لهذا اللفظ الواقع في أولها ، فيجوز أن يراد به حكاية اللفظ ، ويجوز أن يراد به النبيء - صلى الله عليه وسلم - موصوفا بالحال الذي نودي به في قوله تعالى يا أيها المزمل .

قال ابن عطية : هي في قول الجمهور مكية إلا قوله تعالى إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل إلى نهاية السورة فذلك مدني . وحكى القرطبي مثل هذا عن الثعلبي .

وقال في الإتقان : إن استثناء قوله إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل إلى آخر السورة يرده ما أخرجه الحاكم عن عائشة نزل بعد نزول صدر السورة بسنة ، وذلك حين فرض قيام الليل في أول الإسلام قبل فرض الصلوات الخمس اهـ .

[ ص: 253 ] يعني وذلك كله بمكة ، أي : فتكون السورة كلها مكية فتعين أن قوله قم الليل أمر به في مكة .

والروايات تظاهرت على أن قوله إن ربك يعلم أنك تقوم إلى آخر السورة نزل مفصولا عن نزول ما قبله بمدة مختلف في قدرها ، فقالت عائشة : نزل بعد صدر السورة بسنة . ومثله روى الطبري عن ابن عباس ، وقال الجمهور : نزل صدر السورة بمكة ونزل إن ربك يعلم إلى آخرها بالمدينة ، أي : بعد نزول أولها بسنين .

فالظاهر أن الأصح أن نزول ( إن ربك يعلم ) إلى آخر السورة نزل بالمدينة لقوله تعالى وآخرون يقاتلون في سبيل الله إن لم يكن ذلك إنباء بمغيب على وجه المعجزة .

وروى الطبري عن سعيد بن جبير قال : لما أنزل الله على نبيه - صلى الله عليه وسلم - يا أيها المزمل ، مكث النبي - صلى الله عليه وسلم - على هذا الحال عشر سنين يقوم الليل كما أمره الله ، وكانت طائفة من أصحابه يقومون معه فأنزل الله بعد عشر سنين إن ربك يعلم أنك تقوم إلى وأقيموا الصلاة اهـ ، أي : نزلت الآيات الأخيرة في المدينة بناء على أن مقام النبيء - صلى الله عليه وسلم - بمكة كان عشر سنين ، وهو قول جم غفير .

والروايات عن عائشة مضطربة بعضها يقتضي أن السورة كلها مكية وأن صدرها نزل قبل آخرها بسنة قبل فرض الصلاة وهو ما رواه الحاكم في نقل صاحب الإتقان . وذلك يقتضي أن أول السورة نزل بمكة ، وبعض الروايات يقول فيها : إنها كانت تفرش لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حصيرا فصلى عليه من الليل فتسامع الناس فاجتمعوا فخرج مغضبا وخشي أن يكتب عليهم قيام الليل ونزل يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا فكتبت عليهم بمنزلة الفريضة ومكثوا على ذلك ثمانية أشهر ثم وضع الله ذلك عنهم ، فأنزل إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل إلى فتاب عليكم ، فردهم إلى الفريضة ووضع عنهم النافلة . وهذا ما رواه الطبري بسندين إلى أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة ، وهو يقتضي أن السورة كلها مدنية ؛ لأن النبيء - صلى الله عليه وسلم - لم يبن بعائشة إلا في المدينة ، ولأن قولها " فخرج مغضبا " يقتضي أنه خرج من بيته المفضي إلى مسجده ، ويؤيده أخبار تثبت قيام الليل في مسجده . [ ص: 254 ] ولعل سبب هذا الاضطراب اختلاط في الرواية بين فرض قيام الليل وبين الترغيب فيه .

ونسب القرطبي إلى تفسير الثعلبي قال : قال النخعي في قوله تعالى يا أيها المزمل كان النبيء - صلى الله عليه وسلم - متزملا بقطيفة عائشة ، وهي مرط نصفه عليها وهي نائمة ونصفه على النبيء - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي اهـ ، وإنما بنى النبيء - صلى الله عليه وسلم - بعائشة في المدينة ، فالذي نعتمد عليه أن أول السورة نزل بمكة لا محالة كما سنبينه عند قوله تعالى إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا ، وأن قوله إن ربك يعلم أنك تقوم إلى آخر السورة نزل بالمدينة بعد سنين من نزول أول السورة ؛ لأن فيه ناسخا لوجوب قيام الليل وأنه ناسخ لوجوب قيام الليل عن النبيء - صلى الله عليه وسلم - وأن ما رووه عن عائشة أن أول ما فرض قيام الليل قبل فرض الصلاة غريب .

وحكى القرطبي عن الماوردي : أن ابن عباس وقتادة قالا : إن آيتين ، وهما واصبر على ما يقولون إلى قوله ومهلهم قليلا نزلتا بالمدينة .

واختلف في عد هذه السورة في ترتيب نزول السور ، والأصح الذي تضافرت عليه الأخبار الصحيحة : أن أول ما نزل سورة العلق واختلف فيما نزل بعد سورة العلق ، فقيل : سورة ( ن والقلم ) ، وقيل نزل بعد العلق سورة المدثر ، ويظهر أنه الأرجح ثم قيل نزلت سورة المزمل بعد القلم فتكون ثالثة . وهذا قول جابر بن زيد في تعداد نزول السور ، وعلى القول بأن المدثر هي الثانية . يحتمل أن تكون القلم ثالثة والمزمل رابعة ، ويحتمل أن تكون المزمل هي الثالثة والقلم رابعة ، والجمهور على أن المدثر نزلت قبل المزمل ، وهو ظاهر حديث عروة بن الزبير عن عائشة في بدء الوحي من صحيح البخاري وسيأتي عند قوله تعالى ( يا أيها المزمل ) .

والأصح أن سبب نزول ( يا أيها المزمل ) ما في حديث جابر بن عبد الله الآتي عند قوله تعالى ( يا أيها المزمل ) الآية .

وعدت آيها في عد أهل المدينة ثمان عشرة آية ، وفي عد أهل البصرة تسع عشرة ، وفي عد من عداهم عشرون .

التالي السابق


الخدمات العلمية