الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 131 ] بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الفاتحة

سورة الفاتحة من السور ذات الأسماء الكثيرة : أنهاها صاحب الإتقان إلى نيف وعشرين بين ألقاب وصفات جرت على ألسنة القراء من عهد السلف ، ولم يثبت في السنة الصحيحة والمأثور من أسمائها إلا فاتحة الكتاب ، والسبع المثاني ، وأم القرآن ، أو أم الكتاب ، فلنقتصر على بيان هذه الأسماء الثلاثة .

فأما تسميتها فاتحة الكتاب فقد ثبتت في السنة في أحاديث كثيرة منها قول النبيء صلى الله عليه وسلم لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب وفاتحة مشتقة من الفتح وهو إزالة حاجز عن مكان مقصود ولوجه ، فصيغتها تقتضي أن موصوفها شيء يزيل حاجزا ، وليس مستعملا في حقيقته بل مستعملا في معنى أول الشيء تشبيها للأول بالفاتح لأن الفاتح للباب هو أول من يدخل ، فقيل الفاتحة في الأصل مصدر بمعنى الفتح كالكاذبة بمعنى الكذب ، والباقية بمعنى البقاء في قوله تعالى فهل ترى لهم من باقية وكذلك الطاغية في قوله تعالى فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية في قول ابن عباس أي بطغيانهم .

والخاطئة بمعنى الخطأ والحاقة بمعنى الحق . وإنما سمي أول الشيء بالفاتحة إما تسمية للمفعول بالمصدر الآتي على وزن فاعلة ، لأن الفتح يتعلق بأول أجزاء الفعل ففيه يظهر مبدأ المصدر ، وإما على اعتبار الفاتحة اسم فاعل ثم جعلت اسما لأول الشيء ; إذ بذلك الأول يتعلق الفتح بالمجموع ، فهو كالباعث على الفتح ، فالأصل فاتح الكتاب ، وأدخلت عليه هاء التأنيث دلالة على النقل من الوصفية إلى الاسمية أي إلى معاملة الصفة معاملة الاسم في الدلالة على ذات معينة لا على ذي وصف ، مثل الغائبة في قوله تعالىوما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتاب مبين ومثل العافية والعاقبة قال التفتزاني في شرح الكشاف : ولعدم اختصاص الفاتحة والخاتمة بالسورة ونحوها كانت التاء للنقل من الوصفية إلى الاسمية وليست لتأنيث الموصوف في الأصل ، لأنهم يقولون فاتحة وخاتمة دائما لا في خصوص جريانه على موصوف مؤنث كالسورة والقطعة ، وذلك كقولهم " فلان خاتمة العلماء " ، وكقول الحريري في المقامة الأولى " أدتني خاتمة المطاف ، وهدتني فاتحة الألطاف [ ص: 132 ] وأيا ما كان ففاتحة وصف وصف به مبدأ القرآن وعومل معاملة الأسماء الجنسية ، ثم أضيف إلى الكتاب ثم صار هذا المركب علما بالغلبة على هذه السورة .

ومعنى فتحها الكتاب أنها جعلت أول القرآن لمن يريد أن يقرأ القرآن من أوله ، فتكون فاتحة بالجعل النبوي في ترتيب السور ، وقيل لأنها أول ما نزل وهو ضعيف لما ثبت في الصحيح واستفاض أن أول ما أنزل سورة اقرأ باسم ربك وهذا مما لا ينبغي أن يتردد فيه . فالذي نجزم به أن سورة الفاتحة بعد أن نزلت أمر الله رسوله أن يجعلها أول ما يقرأ في تلاوته .

وإضافة سورة إلى فاتحة الكتاب في قولهم " سورة فاتحة الكتاب " من إضافة العام إلى الخاص باعتبار فاتحة الكتاب علما على المقدار المخصوص من الآيات من الحمد لله إلى الضالين ، بخلاف إضافة سورة إلى ما أضيفت إليه في بقية سور القرآن ، فإنها على حذف مضاف ، أي " سورة ذكر كذا " ، وإضافة العام إلى الخاص وردت في كلام العرب مثل قولهم " شجر الأراك ، ويوم الأحد وعلم الفقه " ، ونراها قبيحة لو قال قائل : إنسان زيد ، وذلك باد لمن له أدنى ذوق إلا أن علماء العربية لم يفصحوا عن وجه الفرق بين ما هو مقبول من هذه الإضافة وبين ما هو قبيح ، فكان حقا أن أبين وجهه : وذلك أن إضافة العام إلى الخاص تحسن إذا كان المضاف والمضاف إليه اسمي جنس وأولهما أعم من الثاني ، فهنالك يجوز التوسع بإضافة الأعم إلى الأخص إضافة مقصودا منها الاختصار ، ثم تكسبها غلبة الاستعمال قبولا نحو قولهم " شجر الأراك " ، عوضا أن يقولوا : الشجر الذي هو الأراك ، ويوم الأحد عوضا عن أن يقولوا : يوم هو الأحد . وقد يكون ذلك جائزا غير مقبول لأنه لم يشع في الاستعمال كما لو قلت ، حيوان الإنسان ; فأما إذا كان أحد المتضايفين غير اسم جنس فالإضافة في مثله ممتنعة فلا يقال : إنسان زيد . ولهذا جعل قول الناس " شهر رمضان " علما على الشهر المعروف ، بناء على أن لفظ رمضان خاص بالشهر المعروف لا يحتمل معنى آخر ، فتعين أن يكون ذكر كلمة شهر معه قبيحا لعدم الفائدة منه لولا أنه شاع حتى صار مجموع المركب الإضافي علما على ذلك الشهر . ويصح عندي أن تكون إضافة السورة إلى فاتحة الكتاب من إضافة الموصوف إلى الصفة ، كقولهم : مسجد الجامع ، وعشاء الآخرة ، أي سورة موصوفة بأنها فاتحة الكتاب [ ص: 133 ] فتكون الإضافة بيانية ، ولم يجعلوا لها اسما استغناء بالوصف ، كما يقول المؤلفون " مقدمة أو باب " بلا ترجمة ثم يقولون " باب جامع " مثلا ، ثم يضيفونه فيقولون : باب جامع الصلاة .

وأما إضافة فاتحة إلى الكتاب فإضافة حقيقية باعتبار أن المراد من الكتاب بقيته عدا السورة المسماة الفاتحة ، كما نقول : خطبة التأليف ، وديباجة التقليد .

وأما تسميتها أم القرآن وأم الكتاب فقد ثبتت في السنة من ذلك ما في صحيح البخاري في كتاب الطب أن أبا سعيد الخدري رقى ملدوغا فجعل يقرأ عليه بأم القرآن ، وفي الحديث قصة ، ووجه تسميتها أم القرآن أن الأم يطلق على أصل الشيء ومنشئه ، وفي الحديث الصحيح قال النبيء صلى الله عليه وسلم كل صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج أي منقوصة مخدوجة . وقد ذكروا لتسمية الفاتحة أم القرآن وجوها ثلاثة :

أحدها أنها مبدؤه ومفتتحه فكأنها أصله ومنشؤه ، يعني أن افتتاحه الذي هو وجود أول أجزاء لقرآن قد ظهر فيها فجعلت كالأم للولد في أنها الأصل والمنشأ ، فيكون أم القرآن تشبيها بالأم التي هي منشأ الولد لمشابهتها بالمنشأ من حيث ابتداء الظهور والوجود .

الثاني أنها تشتمل محتوياتها على أنواع مقاصد القرآن وهي ثلاثة أنواع : الثناء على الله ثناء جامعا لوصفه بجميع المحامد وتنزيهه من جميع النقائص ، ولإثبات تفرده بالإلهية وإثبات البعث والجزاء وذلك من قوله الحمد لله إلى قوله ملك يوم الدين والأوامر والنواهي من قوله إياك نعبد والوعد والوعيد من قوله صراط الذين إلى آخرها ، فهذه هي أنواع مقاصد القرآن كله ، وغيرها تكملات لها لأن القصد من القرآن إبلاغ مقاصده الأصلية وهي صلاح الدارين ، وذلك يحصل بالأوامر والنواهي ، ولما توقفت الأوامر والنواهي على معرفة الآمر وأنه الله الواجب وجوده خالق الخلق لزم تحقيق معنى الصفات ، ولما توقف تمام الامتثال على الرجاء في الثواب والخوف من العقاب لزم تحقق الوعد والوعيد . والفاتحة مشتملة على هاته الأنواع فإن قوله الحمد لله إلى قوله يوم الدين حمد وثناء ، وقوله إياك نعبد إلى قوله " المستقيم " من نوع الأوامر والنواهي ، وقوله صراط الذين إلى آخرها من نوع الوعد والوعيد مع أن ذكر المغضوب عليهم والضالين يشير أيضا إلى نوع قصص القرآن ، وقد يؤيد هذا الوجه بما ورد في الصحيح في قل هو الله أحد أنها تعدل ثلث القرآن لأن ألفاظها كلها ثناء على الله تعالى .

الثالث أنها تشتمل معانيها على جملة معاني القرآن من الحكم النظرية والأحكام العملية [ ص: 134 ] فإن معاني القرآن إما علوم تقصد معرفتها وإما أحكام يقصد منها العمل بها ، فالعلوم كالتوحيد والصفات والنبوءات والمواعظ والأمثال والحكم والقصص ، والأحكام إما عمل الجوارح وهو العبادات والمعاملات ، وإما عمل القلوب أي العقول وهو تهذيب الأخلاق وآداب الشريعة ، وكلها تشتمل عليها معاني الفاتحة بدلالة المطابقة أو التضمن أو الالتزام فـ الحمد لله يشمل سائر صفات الكمال التي استحق الله لأجلها حصر الحمد له تعالى بناء على ما تدل عليه جملة الحمد لله من اختصاص جنس الحمد به تعالى واستحقاقه لذلك الاختصاص كما سيأتي و رب العالمين يشمل سائر صفات الأفعال والتكوين عند من أثبتها ، و الرحمن الرحيم يشمل أصول التشريع الراجعة للرحمة بالمكلفين ، و ملك يوم الدين يشمل أحوال القيامة ، و إياك نعبد يجمع معنى الديانة والشريعة ، وإياك نستعين يجمع معنى الإخلاص لله في الأعمال . قال عز الدين بن عبد السلام في كتابه " حل الرموز ومفاتيح الكنوز " : الطريقة إلى الله لها ظاهر أي عمل ظاهر أي بدني وباطن أي عمل قلبي فظاهرها الشريعة وباطنها الحقيقة ، والمراد من الشريعة والحقيقة إقامة العبودية على الوجه المراد من المكلف . ويجمع الشريعة والحقيقة كلمتان هما قوله إياك نعبد وإياك نستعين فـ إياك نعبد شريعة وإياك نستعين حقيقة ، اهـ . و اهدنا الصراط المستقيم يشمل الأحوال الإنسانية وأحكامها من عبادات ومعاملات وآداب ، و صراط الذين أنعمت عليهم يشير إلى أحوال الأمم والأفراد الماضية الفاضلة ، وقوله غير المغضوب عليهم ولا الضالين يشمل سائر قصص الأمم الضالة ويشير إلى تفاصيل ضلالاتهم المحكية عنهم في القرآن ، فلا جرم يحصل من معاني الفاتحة - تصريحا وتضمنا - علم إجمالي بما حواه القرآن من الأغراض .

وذلك يدعو نفس قارئها إلى تطلب التفصيل على حسب التمكن والقابلية . ولأجل هذا فرضت قراءة الفاتحة في كل ركعة من الصلاة حرصا على التذكير لما في مطاويها .

وأما تسميتها السبع المثاني فهي تسمية ثبتت بالسنة ، ففي صحيح البخاري عن أبي سعيد بن المعلى أن رسول الله قال الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني والقرآن العظيم [ ص: 135 ] الذي أوتيته ووجه تسميتها بذلك أنها سبع آيات باتفاق القراء والمفسرين ولم يشذ عن ذلك إلا الحسن البصري فقال هي ثمان آيات ، وإلا الحسين الجعفي فقال هي ست آيات ، وقال بعض الناس تسع آيات ، ويتعين حينئذ كون البسملة ليست من الفاتحة لتكون سبع آيات ومن عد البسملة أدمج آيتين .

وأما وصفها بالمثاني فهو مفاعل جمع مثنى بضم الميم وتشديد النون ، أو مثنى مخفف مثنى ، أو مثنى بفتح الميم مخفف مثني كمعنى مخفف معني ويجوز تأنيث الجميع كما نبه عليه السيد الجرجاني في شرح الكشاف ، وكل ذلك مشتق من التثنية وهي ضم ثان إلى أول . ووجه الوصف به أن تلك الآيات تثنى في كل ركعة كذا في الكشاف . قيل وهو مأثور عن عمر بن الخطاب ، وهو مستقيم لأن معناه أنها تضم إليها السورة في كل ركعة ، ولعل التسمية بذلك كانت في أول فرض الصلاة ، فإن الصلوات فرضت ركعتين ثم أقرت صلاة السفر وأطيلت صلاة الحضر ، كذا ثبت في حديث عائشة في الصحيح وقيل العكس ، وقيل لأنها تثنى في الصلاة أي تكرر ، فتكون التثنية بمعنى التكرير بناء على ما شاع عند العرب من استعمال المثنى في مطلق المكرر نحو ثم ارجع البصر كرتين وقولهم لبيك وسعديك ، وعليه فيكون المراد بالمثاني هنا مثل المراد بالمثاني في قوله تعالى كتابا متشابها مثاني أي مكرر القصص والأغراض . وقيل سميت المثاني لأنها ثنيت في النزول فنزلت بمكة ثم نزلت في المدينة وهذا قول بعيد جدا وتكرر النزول لا يعتبر قائله ، وقد اتفق على أنها مكية فأي معنى لإعادة نزولها بالمدينة .

وهذه السورة وضعت في أول السور لأنها تنزل منها منزل ديباجة الخطبة أو الكتاب ، مع ما تضمنته من أصول مقاصد القرآن كما علمت آنفا ، وذلك شأن الديباجة من براعة الاستهلال . وهذه السورة مكية باتفاق الجمهور ، وقال كثير إنها أول سورة نزلت ، والصحيح أنه نزل قبلها اقرأ باسم ربك وسورة المدثر ثم الفاتحة ، وقيل نزل قبلها أيضا ن والقلم وسورة المزمل ، وقال بعضهم هي أول سورة نزلت كاملة أي غير منجمة ، بخلاف سورة القلم ، وقد حقق بعض العلماء أنها نزلت عند فرض الصلاة فقرأ المسلمون بها في الصلاة عند فرضها ، وقد عدت في رواية عن جابر بن زيد السورة الخامسة في ترتيب [ ص: 136 ] نزول السور . وأيا ما كان فإنها قد سماها النبيء صلى الله عليه وسلم فاتحة الكتاب وأمر بأن تكون أول القرآن . قلت : ولا يناكد ذلك نزولها بعد سور أخرى لمصلحة اقتضت سبقها قبل أن يتجمع من القرآن مقدار يصير به كتابا ، فحين تجمع ذلك أنزلت الفاتحة لتكون ديباجة الكتاب . وأغراضها قد علمت من بيان وجه تسميتها أم القرآن .

وهي سبع آيات باتفاق القراء والمفسرين ، ولم يشذ عن ذلك إلا الحسن البصري ، قال هي ثمان آيات ، ونسب أيضا لعمرو بن عبيد وإلى الحسين الجعفي قال هي ست آيات ، ونسب إلى بعضهم غير معين أنها تسع آيات ، وتحديد هذه الآيات السبع هو ما دل عليه حديث الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : قال الله عز وجل ، قسمت الصلاة نصفين بيني وبين عبدي فنصفها لي ونصفها لعبدي ، ولعبدي ما سأل ، يقول العبد الحمد لله رب العالمين فأقول حمدني عبدي ، فإذا قال العبد الرحمن الرحيم يقول الله : أثنى علي عبدي ، وإذا قال العبد ملك يوم الدين ، قال الله مجدني عبدي ، وإذا قال إياك نعبد وإياك نستعين ، قال الله : هذا بيني وبين عبدي ، وإذا قال اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين قال الله هؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل اهـ .

فهن ثلاث ثم واحدة ثم ثلاث ، فعند أهل المدينة لا تعد البسملة آية وتعد أنعمت عليهم آية ، وعند أهل مكة وأهل الكوفة تعد البسملة آية وتعد أنعمت عليهم جزء آية ، والحسن البصري عد البسملة آية وعد أنعمت عليهم آية .

التالي السابق


الخدمات العلمية