الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        باب ما جاء في عذاب القبر وقوله تعالى ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون قال أبو عبد الله الهون هو الهوان والهون الرفق وقوله جل ذكره سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم وقوله تعالى وحاق بآل فرعون سوء العذاب النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب

                                                                                                                                                                                                        1303 حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة عن علقمة بن مرثد عن سعد بن عبيدة عن البراء بن عازب رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا أقعد المؤمن في قبره أتي ثم شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فذلك قوله يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت حدثنا محمد بن بشار حدثنا غندر حدثنا شعبة بهذا وزاد يثبت الله الذين آمنوا نزلت في عذاب القبر [ ص: 275 ]

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        [ ص: 275 ] قوله : ( باب ما جاء في عذاب القبر ) لم يتعرض المصنف في الترجمة لكون عذاب القبر يقع على الروح فقط أو عليها وعلى الجسد ، وفيه خلاف شهير عند المتكلمين ، وكأنه تركه لأن الأدلة التي يرضاها ليست قاطعة في أحد الأمرين ، فلم يتقلد الحكم في ذلك واكتفى بإثبات وجوده ، خلافا لمن نفاه مطلقا من الخوارج وبعض المعتزلة كضرار بن عمرو ، وبشر المريسي ومن وافقهما ، وخالفهم في ذلك أكثر المعتزلة وجميع أهل السنة وغيرهم ، وأكثروا من الاحتجاج له . وذهب بعض المعتزلة كالجياني إلى أنه يقع على الكفار دون المؤمنين ، وبعض الأحاديث الآتية ترد عليهم أيضا .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وقوله تعالى ) بالجر عطفا على عذاب القبر ، أي ما ورد في تفسير الآيات المذكورة . وكأن المصنف قدم ذكر هذه الآيات لينبه على ثبوت ذكره في القرآن ، خلافا لمن رده وزعم أنه لم يرد ذكره إلا من أخبار الآحاد . فأما الآية التي في الأنعام ، فروى الطبراني ، وابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله تعالى : ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم قال : هذا عند الموت ، والبسط : الضرب ؛ يضربون وجوههم وأدبارهم . انتهى . ويشهد له قوله تعالى في سورة القتال : فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وهذا وإن كان قبل الدفن فهو من جملة العذاب الواقع قبل يوم القيامة ، وإنما أضيف العذاب إلى القبر لكون معظمه يقع فيه ، ولكون الغالب على الموتى أن [ ص: 276 ] يقبروا ، وإلا فالكافر ومن شاء الله تعذيبه من العصاة يعذب بعد موته ولو لم يدفن ، ولكن ذلك محجوب عن الخلق إلا من شاء الله . قوله : ( وقوله جل ذكره : سنعذبهم مرتين وروى الطبري ، وابن أبي حاتم ، والطبراني في الأوسط أيضا من طريق السدي ، عن أبي مالك ، عن ابن عباس ، قال : خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة ، فقال : اخرج يا فلان ، فإنك منافق . . . " فذكر الحديث . وفيه : ففضح الله المنافقين . فهذا العذاب الأول ، والعذاب الثاني عذاب القبر . ورويا أيضا من طريق سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة نحوه ، ومن طريق محمد بن ثور ، عن معمر عن الحسن : " سنعذبهم مرتين : عذاب الدنيا وعذاب القبر " . وعن محمد بن إسحاق قال " بلغني " فذكر نحوه . وقال الطبري بعد أن ذكر اختلافا عن غير هؤلاء : والأغلب أن إحدى المرتين عذاب القبر ، والأخرى تحتمل أحد ما تقدم ذكره من الجوع أو السبي أو القتل أو الإذلال أو غير ذلك .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وقوله تعالى : وحاق بآل فرعون الآية . روى الطبري من طريق الثوري ، عن أبي قيس عن هزيل بن شرحبيل قال : أرواح آل فرعون في طيور سود تغدو وتروح على النار فذلك عرضها . ووصله ابن أبي حاتم من طريق ليث ، عن أبي قيس فذكر عبد الله بن مسعود فيه ، وليث ضعيف ، وسيأتي بعد بابين في الكلام على حديث ابن عمر بيان أن هذا العرض يكون في الدنيا قبل يوم القيامة . قال القرطبي : الجمهور على أن هذا العرض يكون في البرزخ ، وهو حجة في تثبيت عذاب القبر . وقال غيره : وقع ذكر عذاب الدارين في هذه الآية مفسرا مبينا ، لكنه حجة على من أنكر عذاب القبر مطلقا لا على من خصه بالكفار . واستدل بها على أن الأرواح باقية بعد فراق الأجساد ، وهو قول أهل السنة كما سيأتي . واحتج بالآية الأولى على أن النفس والروح شيء واحد لقوله تعالى : أخرجوا أنفسكم والمراد الأرواح ، وهي مسألة مشهورة فيها أقوال كثيرة ، وستأتي الإشارة إلى شيء منها في التفسير عند قوله تعالى : ويسألونك عن الروح الآية .

                                                                                                                                                                                                        ثم أورد المصنف في الباب ستة أحاديث :

                                                                                                                                                                                                        أولها حديث البراء في قوله تعالى : يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت وقد أورد المصنف في التفسير عن أبي الوليد الطيالسي ، عن شعبة ، وصرح فيه بالإخبار بين شعبة ، وعلقمة ، وبالسماع بين علقمة ، وسعد بن عبيدة .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( إذا أقعد المؤمن في قبره أتي ثم شهد ) في رواية الحموي ، والمستملي " ثم يشهد " هكذا ساقه المصنف بهذا اللفظ ، وقد أخرجه الإسماعيلي ، عن أبي خليفة ، عن حفص بن عمر شيخ البخاري فيه بلفظ أبين من لفظه قال : إن المؤمن إذا شهد أن لا إله إلا الله ، وعرف محمدا في قبره ، فذلك قوله . . . إلخ . وأخرجه ابن مردويه من هذا الوجه وغيره بلفظ : إن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر عذاب القبر ، فقال : إن المسلم إذا شهد أن لا إله إلا الله وعرف أن محمدا رسول الله . الحديث .

                                                                                                                                                                                                        قوله في الطريق الثانية ( بهذا وزاد يثبت الله الذين آمنوا نزلت في عذاب القبر ) يوهم أن لفظ غندر كلفظ حفص وزيادة ، وليس كذلك ، وإنما هو بالمعنى ، فقد أخرجه مسلم ، والنسائي ، وابن ماجه ، عن محمد بن بشار شيخ البخاري فيه ، والقدر الذي ذكره هو أول الحديث ، وبقيته عندهم : يقال له : من ربك ؟ فيقول : ربي الله ونبيي محمد . ، والقدر المذكور أيضا أخرجه مسلم ، والنسائي من طريق خيثمة ، عن البراء ، وقد اختصر سعد وخيثمة هذا الحديث جدا ، لكن أخرجه ابن مردويه من وجه آخر عن خيثمة فزاد فيه [ ص: 277 ] : إن كان صالحا وفق ، وإن كان لا خير فيه وجد أبله . وفيه اختصار أيضا ، وقد رواه زاذان أبو عمر ، عن البراء مطولا مبينا أخرجه أصحاب السنن وصححه أبو عوانة وغيره وفيه من الزيادة في أوله : استعيذوا بالله من عذاب القبر . وفيه " فترد روحه في جسده " وفيه : فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له : من ربك ؟ فيقول : ربي الله . فيقولان له : ما دينك ؟ فيقول : ديني الإسلام . فيقولان له . ما هذا الرجل الذي بعث فيكم ؟ فيقول : هو رسول الله . فيقولان له : وما يدريك ؟ فيقول : قرأت القرآن كتاب الله ، فآمنت به وصدقت . فذلك قوله تعالى : يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت . وفيه : وإن الكافر تعاد روحه في جسده ، فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له : من ربك ؟ فيقول : هاه هاه ، لا أدري . الحديث . وسيأتي نحو هذا في حديث أنس سادس أحاديث الباب ، ويأتي الكلام عليه مستوفى هناك ، إن شاء الله تعالى . قال الكرماني : ليس في الآية ذكر عذاب القبر ، فلعله سمى أحوال العبد في قبره عذاب القبر تغليبا لفتنة الكافر على فتنة المؤمن لأجل التخويف ، ولأن القبر مقام الهول والوحشة ، ولأن ملاقاة الملائكة مما يهاب منه ابن آدم في العادة .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية