الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        باب قول النبي صلى الله عليه وسلم للحسن بن علي إن ابني هذا لسيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين

                                                                                                                                                                                                        6692 حدثنا علي بن عبد الله حدثنا سفيان حدثنا إسرائيل أبو موسى ولقيته بالكوفة وجاء إلى ابن شبرمة فقال أدخلني على عيسى فأعظه فكأن ابن شبرمة خاف عليه فلم يفعل قال حدثنا الحسن قال لما سار الحسن بن علي رضي الله عنهما إلى معاوية بالكتائب قال عمرو بن العاص لمعاوية أرى كتيبة لا تولي حتى تدبر أخراها قال معاوية من لذراري المسلمين فقال أنا فقال عبد الله بن عامر وعبد الرحمن بن سمرة نلقاه فنقول له الصلح قال الحسن ولقد سمعت أبا بكرة قال بينا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب جاء الحسن فقال النبي صلى الله عليه وسلم ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        قوله : باب قول النبي صلى الله عليه وسلم للحسن بن علي : إن ابني هذا لسيد ) في رواية المروزي والكشميهني " سيد " بغير لام وكذا لهم في مثل هذه الترجمة في كتاب الصلح وبحذف إن وساق المتن هناك بلفظ " إن ابني هذا سيد " وساقه هنا بحذفها فأشار في كل من الموضعين إلى ما وقع في الآخر ، وقد أخرجه هناك عن عبد الله بن محمد عن سفيان بتمامه ، ثم نقل عن علي بن عبد الله ما يتعلق بسماع الحسن من أبي بكرة وساقه هنا عن علي بن عبد الله فلم يذكر ذلك ولم أر في شيء من طرق المتن " لسيد " باللام كما وقع في هذه الترجمة ، وقد أخرجه الإسماعيلي من رواية سبعة أنفس عن سفيان بن عيينة وبين اختلاف ألفاظهم وذكر في الباب الحديث المذكور وحديثا لأسامة بن زيد .

                                                                                                                                                                                                        [ ص: 67 ] قوله : حدثنا إسرائيل أبو موسى ) هي كنية إسرائيل واسم أبيه موسى فهو ممن وافقت كنيته اسم أبيه فيؤمن فيه من التصحيف ، وهو بصري كان يسافر في التجارة إلى الهند وأقام بها مدة .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ولقيته بالكوفة ) قائل ذلك هو سفيان بن عيينة والجملة حالية .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( وجاء إلى ابن شبرمة ) هو عبد الله قاضي الكوفة في خلافة أبي جعفر المنصور ومات في خلافته سنة أربع وأربعين ومائة وكان صارما عفيفا ثقة فقيها .

                                                                                                                                                                                                        قوله : فقال أدخلني على عيسى فأعظه ) بفتح الهمزة وكسر العين المهملة وفتح الظاء المشالة من الوعظ ، وعيسى هو ابن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس ابن أخي المنصور وكان أميرا على الكوفة إذ ذاك .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( فكأن ) بالتشديد ( ابن شبرمة خاف عليه ) أي على إسرائيل ( فلم يفعل ) أي : فلم يدخله على عيسى بن موسى ، ولعل سبب خوفه عليه أنه كان صادعا بالحق فخشي أنه لا يتلطف بعيسى فيبطش به لما عنده من غرة الشباب وغرة الملك ، قال ابن بطال : دل ذلك من صنيع ابن شبرمة على أن من خاف على نفسه سقط عنه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وكانت وفاة عيسى المذكور في خلافة المهدي سنة ثمان وستين ومائة .

                                                                                                                                                                                                        قوله : قال حدثنا الحسن ) يعني البصري والقائل " حدثنا " هو إسرائيل المذكور ، قال البزار في مسنده بعد أن أخرج هذا الحديث عن خلف بن خليفة عن سفيان بن عيينة : لا نعلم رواه عن إسرائيل غير سفيان ، وتعقبه مغلطاي بأن البخاري أخرجه في علامات النبوة من طريق حسين بن علي الجعفي عن أبي موسى وهو إسرائيل هذا ، وهو تعقب جيد ولكن لم أر فيه القصة وإنما أخرج فيه الحديث المرفوع فقط .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( لما سار الحسن بن علي إلى معاوية بالكتائب ) في رواية عبد الله بن محمد عن سفيان في كتاب الصلح : استقبل والله الحسن بن علي معاوية بكتائب أمثال الجبال " والكتائب بمثناة وآخره موحدة جمع كتيبة بوزن عظيمة وهي طائفة من الجيش تجتمع وهي فعيلة بمعنى مفعولة لأن أمير الجيش إذا رتبهم وجعل كل طائفة على حدة كتبهم في ديوانه كذلك ، ذكر ذلك ابن التين عن الداودي ، ومنه قيل : مكتب بني فلان ، قال وقوله " أمثال الجبال " أي لا يرى لها طرف لكثرتها كما لا يرى من قابل الجبل طرفه ، ويحتمل أن يريد شدة البأس . وأشار الحسن البصري بهذه القصة إلى ما اتفق بعد قتل علي رضي الله عنه ، وكان علي لما انقضى أمر التحكيم ورجع إلى الكوفة تجهز لقتال أهل الشام مرة بعد أخرى فشغله أمر الخوارج بالنهروان كما تقدم وذلك في سنة ثمان وثلاثين ، ثم تجهز في سنة تسع وثلاثين فلم يتهيأ ذلك لافتراق آراء أهل العراق عليه ، ثم وقع الجد منه في ذلك في سنة أربعين فأخرج إسحاق من طريق عبد العزيز بن سياه بكسر المهملة وتخفيف الياء آخر الحروف قال : لما خرج الخوارج قام علي فقال : أتسيرون إلى الشام أو ترجعون إلى هؤلاء الذين خلفوكم في دياركم ؟ قالوا : بل نرجع إليهم ، فذكر قصة الخوارج قال فرجع علي إلى الكوفة ، فلما قتل واستخلف الحسن وصالح معاوية كتب إلى قيس بن سعد بذلك ، فرجع عن قتال معاوية . وأخرج الطبري بسند صحيح عن يونس بن يزيد عن الزهري قال : جعل علي على مقدمة أهل العراق قيس بن سعد بن عبادة وكانوا أربعين ألفا بايعوه على الموت ، فقتل علي فبايعوا الحسن بن علي بالخلافة ، وكان لا يحب القتال ، ولكن كان يريد أن يشترط على [ ص: 68 ] معاوية لنفسه ، فعرف أن قيس بن سعد لا يطاوعه على الصلح فنزعه وأمر عبد الله بن عباس فاشترط لنفسه كما اشترط الحسن .

                                                                                                                                                                                                        وأخرج الطبري والطبراني من طريق إسماعيل بن راشد قال : بعث الحسن قيس بن سعد على مقدمته في اثني عشر ألفا - يعني من الأربعين - فسار قيس إلى جهة الشام . وكان معاوية لما بلغه قتل علي خرج في عساكر من الشام ، وخرج الحسن بن علي حتى نزل المدائن ، فوصل معاوية إلى مسكن وقال ابن بطال : ذكر أهل العلم بالأخبار أن عليا لما قتل سار معاوية يريد العراق وسار الحسن يريد الشام فالتقيا بمنزل من أرض الكوفة ، فنظر الحسن إلى كثرة من معه فنادى : يا معاوية إني اخترت ما عند الله ، فإن يكن هذا الأمر لك فلا ينبغي لي أن أنازعك فيه وإن يكن لي فقد تركته لك فكبر أصحاب معاوية . وقال المغيرة عند ذلك : أشهد أني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : إن ابني هذا سيد " ، الحديث وقال في آخره : فجزاك الله عن المسلمين خيرا ، انتهى وفي صحة هذا نظر من أوجه : الأول أن المحفوظ أن معاوية هو الذي بدأ بطلب الصلح كما في حديث الباب الثاني أن الحسن ومعاوية لم يتلاقيا بالعسكرين حتى يمكن أن يتخاطبا وإنما تراسلا ، فيحمل قوله : فنادى يا معاوية " على المراسلة ، ويجمع بأن الحسن راسل معاوية بذلك سرا فراسله معاوية جهرا .

                                                                                                                                                                                                        والمحفوظ أن كلام الحسن الأخير إنما وقع بعد الصلح والاجتماع كما أخرجه سعيد بن منصور والبيهقي في " الدلائل " من طريقه ومن طريق غيره بسندهما إلى الشعبي قال : لما صالح الحسن بن علي معاوية ; قال له معاوية قم فتكلم ، فقام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد ؛ فإن أكيس الكيس التقى وإن أعجز العجز الفجور ، ألا وإن هذا الأمر الذي اختلفت فيه أنا ومعاوية حق لامرئ كان أحق به مني ، أو حق لي تركته لإرادة إصلاح المسلمين وحقن دمائهم ، وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين . ثم استغفر ونزل . وأخرج يعقوب بن سفيان ومن طريقه أيضا البيهقي في " الدلائل " من طريق الزهري فذكر القصة وفيها : فخطب معاوية ثم قال : قم يا حسن فكلم الناس ، فتشهد ثم قال : أيها الناس إن الله هداكم بأولنا وحقن دماءكم بآخرنا ، وإن لهذا الأمر مدة والدنيا دول . وذكر بقية الحديث . والثالث أن الحديث لأبي بكرة لا للمغيرة ، لكن الجمع ممكن بأن يكون المغيرة حدث به عندما سمع مراسلة الحسن بالصلح وحدث به أبو بكرة بعد ذلك ، وقد روى أصل الحديث جابر أورده الطبراني والبيهقي في " الدلائل " من فوائد يحيى بن معين بسند صحيح إلى جابر ، وأورده الضياء في " الأحاديث المختارة مما ليس في الصحيحين " وعجبت للحاكم في عدم استدراكه مع شدة حرصه على مثله ، قال ابن بطال : سلم الحسن لمعاوية الأمر وبايعه على إقامة كتاب الله وسنة نبيه ، ودخل معاوية الكوفة وبايعه الناس فسميت سنة الجماعة لاجتماع الناس وانقطاع الحرب . وبايع معاوية كل من كان معتزلا للقتال كابن عمر وسعد بن أبي وقاص ومحمد بن مسلمة ، وأجاز معاوية الحسن بثلاثمائة ألف وألف ثوب وثلاثين عبدا ومائة جمل ، وانصرف إلى المدينة ، وولى معاوية الكوفة المغيرة بن شعبة والبصرة عبد الله بن عامر ورجع إلى دمشق .

                                                                                                                                                                                                        قوله : قال عمرو بن العاص لمعاوية : أرى كتيبة لا تولي ) بالتشديد أي لا تدبر .

                                                                                                                                                                                                        قوله : حتى تدبر أخراها ) أي التي تقابلها ، ونسبها إليها لتشاركهما في المحاربة ، وهذا على أن يدبر من أدبر رباعيا ، ويحتمل أن يكون من دبر يدبر بفتح أوله وضم الموحدة أي يقوم مقامها ، يقال دبرته إذا بقيت بعده ، وتقدم في رواية عبد الله بن محمد في الصلح " إني لأرى كتائب لا تولي حتى تقتل أقرانها " وهي أبين ، قال عياض : هي الصواب ، ومقتضاه أن الأخرى خطأ وليس كذلك بل توجيهها ما تقدم . وقال الكرماني : [ ص: 69 ] يحتمل أيضا أن تراد الكتيبة الأخيرة التي هي من جملة تلك الكتائب ، أي لا ينهزمون بأن ترجع الأخرى أولى .

                                                                                                                                                                                                        قوله : قال معاوية من لذراري المسلمين ) أي من يكفلهم إذا قتل آباؤهم ؟ زاد في الصلح : فقال له معاوية وكان والله خير الرجلين - يعني معاوية - : أي عمرو إن قتل هؤلاء هؤلاء وهؤلاء هؤلاء من لي بأمور الناس ، من لي بنسائهم ، من لي بضيعتهم " يشير إلى أن رجال العسكرين معظم من في الإقليمين فإذا قتلوا ضاع أمر الناس وفسد حال أهلهم بعدهم وذراريهم ، والمراد بقوله : ضيعتهم " الأطفال والضعفاء سموا باسم ما يئول إليه أمرهم لأنهم إذا تركوا ضاعوا لعدم استقلالهم بأمر المعاش ، وفي رواية الحميدي عن سفيان في هذه القصة : من لي بأمورهم ، من لي بدمائهم ، من لي بنسائهم . وأما قوله هنا في جواب قول معاوية : من لذراري المسلمين ؟ فقال : أنا . فظاهره يوهم أن المجيب بذلك هو عمرو بن العاص ، ولم أر في طرق الخبر ما يدل على ذلك ، فإن كانت محفوظة فلعلها كانت : فقال أنى " بتشديد النون المفتوحة قالها عمرو على سبيل الاستبعاد . وأخرج عبد الرزاق في مصنفه عن معمر عن الزهري قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص في بعث ذات السلاسل " فذكر أخبارا كثيرة من التاريخ إلى أن قال " وكان قيس بن سعد بن عبادة على مقدمة الحسن بن علي ، فأرسل إليه معاوية سجلا قد ختم في أسفله فقال : اكتب فيه ما تريد فهو لك ، فقال له عمرو بن العاص : بل نقاتله ، فقال معاوية - وكان خير الرجلين - : على رسلك يا أبا عبد الله ، لا تخلص إلى قتل هؤلاء حتى يقتل عددهم من أهل الشام ، فما خير الحياة بعد ذلك ؟ وإني والله لا أقاتل حتى لا أجد من القتال بدا .

                                                                                                                                                                                                        قوله : فقال عبد الله بن عامر وعبد الرحمن بن سمرة : نلقاه فنقول له الصلح ) أي نشير عليه بالصلح ، وهذا ظاهره أنهما بدأا بذلك ، والذي تقدم في كتاب الصلح أن معاوية هو الذي بعثهما ، فيمكن الجمع بأنهما عرضا أنفسهما فوافقهما ولفظه هناك " فبعث إليه رجلين من قريش من بني عبد شمس " أي ابن عبد مناف بن قصي " عبد الرحمن بن سمرة . زاد الحميدي في مسنده عن سفيان بن حبيب بن عبد شمس " قال سفيان وكانت له صحبة " قلت : وهو راوي حديث " لا تسأل الإمارة " وسيأتي شيء من خبره في كتاب الأحكام . وعبد الله بن عامر بن كريز بكاف وراء ثم زاي مصغر زاد الحميدي " ابن حبيب بن عبد شمس " وقد مضى له ذكر في كتاب الحج وغيره ، وهو الذي ولاه معاوية البصرة بعد الصلح ، وبنو حبيب بن عبد شمس بنو عم بني أمية بن عبد شمس ، ومعاوية هو ابن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية ( فقال معاوية : اذهبا إلى هذا الرجل فاعرضا عليه ) أي ما شاء من المال ( وقولا له ) أي في حقن دماء المسلمين بالصلح ( واطلبا إليه ) أي اطلبا منه خلعه نفسه من الخلافة وتسليم الأمر لمعاوية وابذلا له في مقابلة ذلك ما شاء ( قال فقال لهما الحسن بن علي : إنا بنو عبد المطلب قد أصبنا من هذا المال ، وإن هذه الأمة قد عاثت في دمائها ، قالا فإنه يعرض عليك كذا وكذا ويطلب إليك ويسألك ، قال فمن لي بهذا ؟ قالا : نحن لك به فما سألهما شيئا إلا قالا نحن لك به ، فصالحه ) .

                                                                                                                                                                                                        قال ابن بطال : هذا يدل على أن معاوية كان هو الراغب في الصلح وأنه عرض على الحسن المال ورغبه فيه وحثه على رفع السيف وذكره ما وعده به جده صلى الله عليه وسلم من سيادته في الإصلاح به ، فقال له الحسن : إنا بنو عبد المطلب أصبنا من هذا المال ، أي إنا جبلنا على الكرم والتوسعة على أتباعنا من الأهل والموالي وكنا نتمكن من ذلك بالخلافة حتى صار ذلك لنا [ ص: 70 ] عادة وقوله إن هذه الأمة أي العسكرين الشامي والعراقي " قد عاثت " بالمثلثة - أي قتل بعضها بعضا فلا يكفون عن ذلك إلا بالصفح عما مضى منهم والتألف بالمال . وأراد الحسن بذلك كله تسكين الفتنة وتفرقة المال على من لا يرضيه إلا المال ، فوافقاه على ما شرط من جميع ذلك والتزما له من المال في كل عام والثياب والأقوات ما يحتاج إليه لكل من ذكر . وقوله : من لي بهذا " أي : من يضمن لي الوفاء من معاوية ؟ فقالا : نحن نضمن لأن معاوية كان فوض لهما ذلك ، ويحتمل أن يكون قوله : أصبنا من هذا المال " أي فرقنا منه في حياة علي وبعده ما رأينا في ذلك صلاحا فنبه على ذلك خشية أن يرجع عليه بما تصرف فيه . وفي رواية إسماعيل بن راشد عند الطبري : فبعث إليه معاوية عبد الله بن عامر وعبد الله بن سمرة بن حبيب . كذا قال عبد الله وكذا وقع عند الطبراني ، والذي في الصحيح أصح ، ولعل عبد الله كان مع أخيه عبد الرحمن ، قال فقدما على الحسن بالمدائن فأعطياه ما أراد وصالحاه على أن يأخذ من بيت مال الكوفة خمسة آلاف ألف في أشياء اشترطها . ومن طريق عوانة بن الحكم نحوه وزاد وكان الحسن صالح معاوية على أن يجعل له ما في بيت مال الكوفة ، وأن يكون له خراج دار أبجرد .

                                                                                                                                                                                                        وذكر محمد بن قدامة في " كتاب الخوارج " بسند قوي إلى أبي بصرة أنه سمع الحسن بن علي يقول في خطبته عند معاوية إني اشترطت على معاوية لنفسي الخلافة بعده .

                                                                                                                                                                                                        وأخرج يعقوب بن سفيان بسند صحيح إلى الزهري قال : كاتب الحسن بن علي معاوية واشترط لنفسه فوصلت الصحيفة لمعاوية وقد أرسل إلى الحسن يسأله الصلح ومع الرسول صحيفة بيضاء مختوم على أسفلها وكتب إليه أن اشترط ما شئت فهو لك ، فاشترط الحسن أضعاف ما كان سأل أولا ، فلما التقيا وبايعه الحسن سأله أن يعطيه ما اشترط في السجل الذي ختم معاوية في أسفله فتمسك معاوية إلا ما كان الحسن سأله أولا ، واحتج بأنه أجاب سؤاله أول ما وقف عليه فاختلفا في ذلك فلم ينفذ للحسن من الشرطين شيء . وأخرج ابن أبي خيثمة من طريق عبد الله بن شوذب قال : لما قتل علي سار الحسن بن علي في أهل العراق ومعاوية في أهل الشام فالتقوا ، فكره الحسن القتال وبايع معاوية على أن يجعل العهد للحسن من بعده فكان أصحاب الحسن يقولون له يا عار المؤمنين ، فيقول العار خير من النار .

                                                                                                                                                                                                        قوله : قال الحسن ) هو البصري وهو موصول بالسند المتقدم ووقع في رجال البخاري لأبي الوليد الباجي في ترجمة الحسن بن علي بن أبي طالب ما نصه : أخرج البخاري قول الحسن سمعت أبا بكرة " فتأوله الدارقطني وغيره على أنه الحسن بن علي لأن الحسن البصري عندهم لم يسمع من أبي بكرة ، وحمله ابن المديني والبخاري على أنه الحسن البصري ، قال الباجي : وعندي أن الحسن الذي قال : سمعت هذا من أبي بكرة . إنما هو الحسن بن علي . انتهى ، وهو عجيب منه ، فإن البخاري قد أخرج متن هذا الحديث في علامات النبوة مجردا عن القصة من طريق حسين بن علي الجعفي عن أبي موسى - وهو إسرائيل بن موسى - عن الحسن عن أبي بكرة ، وأخرجه البيهقي في " الدلائل " من رواية مبارك بن فضالة ومن رواية علي بن زيد كلاهما عن الحسن عن أبي بكرة وزاد في آخره : قال الحسن : فلما ولى ما أهريق في سببه محجمة دم . فالحسن القائل هو البصري ، والذي ولى هو الحسن بن علي ، وليس للحسن بن علي في هذا رواية ، وهؤلاء الثلاثة - إسرائيل بن موسى ومبارك بن فضالة وعلي بن زيد - لم يدرك واحد منهم الحسن بن علي .

                                                                                                                                                                                                        وقد صرح إسرائيل بقوله : سمعت الحسن " وذلك فيما أخرجه الإسماعيلي عن الحسن بن سفيان عن الصلت بن مسعود عن سفيان بن عيينة عن أبي موسى وهو إسرائيل : سمعت الحسن سمعت أبا بكرة . وهؤلاء كلهم من رجال الصحيح ، [ ص: 71 ] والصلت من شيوخ مسلم ، وقد استشعر ابن التين خطأ الباجي فقال : قال الداودي الحسن مع قربه من النبي صلى الله عليه وسلم بحيث توفي النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن سبع سنين لا يشك في سماعه منه وله مع ذلك صحبة . قال ابن التين : الذي في البخاري إنما أراد سماع الحسن بن أبي الحسن البصري من أبي بكرة . قلت : ولعل الداودي إنما أراد رد توهم من يتوهم أنه الحسن بن علي فدفعه بما ذكر وهو ظاهر وإنما قال ابن المديني ذلك لأن الحسن كان يرسل كثيرا عمن لم يلقهم بصيغة " عن " فخشي أن تكون روايته عن أبي بكرة مرسلة فلما جاءت هذه الرواية مصرحة بسماعه من أبي بكرة ثبت عنده أنه سمعه منه ، ولم أر ما نقله الباجي عن الدارقطني من أن الحسن هنا هو ابن علي في شيء من تصانيفه ، وإنما قال في " التتبع لما في الصحيحين " : أخرج البخاري أحاديث عن الحسن عن أبي بكرة ، والحسن إنما روى عن الأحنف عن أبي بكرة ، وهذا يقتضي أنه عنده لم يسمع من أبي بكرة ، لكن لم أر من صرح بذلك ممن تكلم في مراسيل الحسن كابن المديني وأبي حاتم وأحمد والبزار وغيرهم . نعم كلام ابن المديني يشعر بأنهم كانوا يحملونه على الإرسال حتى وقع هذا التصريح .

                                                                                                                                                                                                        قوله : بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب جاء الحسن فقال ) وقع في رواية علي بن زيد عن الحسن في " الدلائل " للبيهقي " يخطب أصحابه يوما إذ جاء الحسن بن علي فصعد إليه المنبر " وفي رواية عبد الله بن محمد المذكورة " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر والحسن بن علي إلى جنبه وهو يقبل على الناس مرة وعليه أخرى ويقول " ومثله في رواية ابن أبي عمر عن سفيان لكن قال " وهو يلتفت إلى الناس مرة وإليه أخرى " .

                                                                                                                                                                                                        قوله ( ابني هذا سيد ) في رواية عبد الله بن محمد " إن ابني هذا سيد " وفي رواية مبارك بن فضالة " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضم الحسن بن علي إليه وقال : إن ابني هذا سيد " وفي رواية علي بن زيد " فضمه إليه وقال : ألا إن ابني هذا سيد " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ولعل الله أن يصلح به ) كذا استعمل " لعل " استعمال عسى لاشتراكهما في الرجاء ، والأشهر في خبر " لعل " بغير " أن " كقوله تعالى لعل الله يحدث .

                                                                                                                                                                                                        قوله : بين فئتين من المسلمين ) زاد عبد الله بن محمد في روايته " عظيمتين " وكذا في رواية مبارك بن فضالة وفي رواية علي بن زيد كلاهما عن الحسن عند البيهقي ، وأخرج من طريق أشعث بن عبد الملك عن الحسن كالأول لكنه قال : وإني لأرجو أن يصلح الله به " وجزم في حديث جابر ولفظه عند الطبراني والبيهقي " قال للحسن : إن ابني هذا سيد يصلح الله به بين فئتين من المسلمين " قال البزار : روي هذا الحديث عن أبي بكرة وعن جابر ، وحديث أبي بكرة أشهر وأحسن إسنادا ، وحديث جابر غريب . وقال الدارقطني : اختلف على الحسن فقيل عنه عن أم سلمة ، وقيل عن ابن عيينة عن أيوب عن الحسن ، وكل منهما وهم . ورواه داود بن أبي هند وعوف الأعرابي عن الحسن مرسلا .

                                                                                                                                                                                                        وفي هذه القصة من الفوائد علم من أعلام النبوة ، ومنقبة للحسن بن علي فإنه ترك الملك لا لقلة ولا لذلة ولا لعلة بل لرغبته فيما عند الله لما رآه من حقن دماء المسلمين ، فراعى أمر الدين ومصلحة الأمة . وفيها رد على الخوارج الذين كانوا يكفرون عليا ومن معه ومعاوية ومن معه بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم للطائفتين بأنهم من المسلمين ، ومن ثم كان سفيان [ ص: 72 ] بن عيينة يقول عقب هذا الحديث : قوله " من المسلمين " يعجبنا جدا أخرجه يعقوب بن سفيان في تاريخه عن الحميدي وسعيد بن منصور عنه . وفيه فضيلة الإصلاح بين الناس ولا سيما في حقن دماء المسلمين ، ودلالة على رأفة معاوية بالرعية ، وشفقته على المسلمين ، وقوة نظره في تدبير الملك ، ونظره في العواقب . وفيه ولاية المفضول الخلافة مع وجود الأفضل لأن الحسن ومعاوية ولي كل منهما الخلافة وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد في الحياة وهما بدريان قاله ابن التين . وفيه جواز خلع الخليفة نفسه إذا رأى في ذلك صلاحا للمسلمين والنزول عن الوظائف الدينية والدنيوية بالمال ، وجواز أخذ المال على ذلك وإعطائه بعد استيفاء شرائطه بأن يكون المنزول له أولى من النازل وأن يكون المبذول من مال الباذل . فإن كان في ولاية عامة وكان المبذول من بيت المال اشترط أن تكون المصلحة في ذلك عامة ، أشار إلى ذلك ابن بطال قال : يشترط أن يكون لكل من الباذل والمبذول له سبب في الولاية يستند إليه ، وعقد من الأمور يعول عليه . وفيه أن السيادة لا تختص بالأفضل بل هو الرئيس على القوم والجمع سادة ، وهو مشتق من السؤدد وقيل من السواد لكونه يرأس على السواد العظيم من الناس أي الأشخاص الكثيرة وقال المهلب الحديث دال على أن السيادة إنما يستحقها من ينتفع به الناس ، لكونه علق السيادة بالإصلاح . وفيه إطلاق الابن على ابن البنت ، وقد انعقد الإجماع على أن امرأة الجد والد الأم محرمة على ابن بنته ، وأن امرأة ابن البنت محرمة على جده ، وإن اختلفوا في التوارث . واستدل به على تصويب رأي من قعد عن القتال مع معاوية وعلي وإن كان علي أحق بالخلافة وأقرب إلى الحق ، وهو قول سعد بن أبي وقاص وابن عمر ومحمد بن مسلمة وسائر من اعتزل تلك الحروب .

                                                                                                                                                                                                        وذهب جمهور أهل السنة إلى تصويب من قاتل مع علي لامتثال قوله تعالى وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا الآية ففيها الأمر بقتال الفئة الباغية ، وقد ثبت أن من قاتل عليا كانوا بغاة ، وهؤلاء مع هذا التصويب متفقون على أنه لا يذم واحد من هؤلاء بل يقولون اجتهدوا فأخطأوا ، وذهب طائفة قليلة من أهل السنة - وهو قول كثير من المعتزلة - إلى أن كلا من الطائفتين مصيب ، وطائفة إلى أن المصيب طائفة لا بعينها .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية