الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                    صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                    [ ص: 135 ] بسم الله الرحمن الرحيم ، سورة الشعراء وهي مكية . ووقع في تفسير مالك المروي عنه تسميتها : سورة الجامعة .

                                                                                                                                                                                                    ( طسم ( 1 ) تلك آيات الكتاب المبين ( 2 ) لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين ( 3 ) إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين ( 4 ) وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين ( 5 ) فقد كذبوا فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون ( 6 ) أولم يروا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم ( 7 ) إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين ( 8 ) وإن ربك لهو العزيز الرحيم ( 9 ) ) .

                                                                                                                                                                                                    أما الكلام على الحروف المقطعة في أوائل السور ، فقد تكلمنا عليه في أول تفسير سورة البقرة .

                                                                                                                                                                                                    وقوله : ( تلك آيات الكتاب المبين ) أي : هذه آيات القرآن المبين ، أي : البين الواضح ، الذي يفصل بين الحق والباطل ، والغي والرشاد .

                                                                                                                                                                                                    وقوله : ( لعلك باخع ) أي : مهلك ( نفسك ) أي : مما تحرص [ عليهم ] وتحزن عليهم ( ألا يكونوا مؤمنين ) ، وهذه تسلية من الله لرسوله ، صلوات الله وسلامه عليه ، في عدم إيمان من لم يؤمن به من الكفار ، كما قال تعالى : ( فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ) [ فاطر : 8 ] ، وقال : ( فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا ) [ الكهف : 6 ] .

                                                                                                                                                                                                    قال مجاهد ، وعكرمة ، والحسن ، وقتادة ، وعطية ، والضحاك : ( لعلك باخع نفسك ) أي : قاتل نفسك . قال الشاعر


                                                                                                                                                                                                    ألا أيهذا الباخع الحزن نفسه لشيء نحته عن يديه المقادر



                                                                                                                                                                                                    ثم قال الله تعالى : ( إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين ) أي : لو شئنا لأنزلنا آية تضطرهم إلى الإيمان قهرا ، ولكنا لا نفعل ذلك; لأنا لا نريد من أحد إلا الإيمان الاختياري; وقال تعالى : ( ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ) [ يونس : 99 ] ، وقال : ( ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين . إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم ) [ هود : 118 ، 119 ] ، فنفذ قدره ، ومضت حكمته ، وقامت حجته البالغة على خلقه بإرسال الرسل إليهم ، وإنزال الكتب عليهم .

                                                                                                                                                                                                    [ ص: 136 ]

                                                                                                                                                                                                    ثم قال : ( وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين ) أي : كلما جاءهم كتاب من السماء أعرض عنه أكثر الناس ، كما قال : ( وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين ) [ يوسف : 103 ] ، وقال : ( ياحسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون ) [ يس : 30 ] ، وقال : ( ثم أرسلنا رسلنا تترا كل ما جاء أمة رسولها كذبوه فأتبعنا بعضهم بعضا وجعلناهم أحاديث فبعدا لقوم لا يؤمنون ) [ المؤمنون : 44 ] ; ولهذا قال تعالى هاهنا : ( فقد كذبوا فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون ) أي : فقد كذبوا بما جاءهم من الحق ، فسيعلمون نبأ هذا التكذيب بعد حين ، ( وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ) [ الشعراء : 227 ] .

                                                                                                                                                                                                    ثم نبه تعالى على عظمته في سلطانه وجلالة قدره وشأنه ، الذين اجترؤوا على مخالفة رسوله وتكذيب كتابه ، وهو القاهر العظيم القادر ، الذي خلق الأرض وأنبت فيها من كل زوج كريم ، من زروع وثمار وحيوان .

                                                                                                                                                                                                    قال سفيان الثوري ، عن رجل ، عن الشعبي : الناس من نبات الأرض ، فمن دخل الجنة فهو كريم ، ومن دخل النار فهو لئيم .

                                                                                                                                                                                                    ( إن في ذلك لآية ) أي : دلالة على قدرة الخالق للأشياء ، الذي بسط الأرض ورفع بناء السماء ، ومع هذا ما آمن أكثر الناس ، بل كذبوا به وبرسله وكتبه ، وخالفوا أمره وارتكبوا زواجره .

                                                                                                                                                                                                    وقوله : ( وإن ربك لهو العزيز ) أي : الذي عز كل شيء وقهره وغلبه ، ( الرحيم ) أي : بخلقه ، فلا يعجل على من عصاه ، بل ينظره ويؤجله ثم يأخذه أخذ عزيز مقتدر .

                                                                                                                                                                                                    قال أبو العالية ، وقتادة ، والربيع بن أنس ، و [ محمد ] بن إسحاق : العزيز في نقمته وانتصاره ممن خالف أمره وعبد غيره .

                                                                                                                                                                                                    وقال سعيد بن جبير : الرحيم بمن تاب إليه وأناب .

                                                                                                                                                                                                    التالي السابق


                                                                                                                                                                                                    الخدمات العلمية