الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                            [ ص: 268 ] باب القضاء على الغائب

                                                                                                                            عن البلد أو المجلس لتوار أو تعزز مع ما يذكر معه ( هو جائز ) في كل شيء سوى عقوبة الله تعالى كما يأتي ، وإن كان الغائب في غير عمله للحاجة ولتمكنه من إبطال الحكم عليه بإثبات طاعن في البينة بنحو فسق أو في الحق بنحو أداء ، وليس له سؤال القاضي عن كيفية الدعوى لأن تحريرها إليه . نعم إن سجلت فله القدح بإبداء مبطل لها كما هو ظاهر ، { ولأنه صلى الله عليه وسلم قال لهند امرأة أبي سفيان رضي الله عنهما لما شكت له من شحه خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف } فهو قضاء عليه لا إفتاء ، وإلا لقال لك أن تأخذي مثلا ، ورده في شرح مسلم بأنه كان حاضرا بمكة غير متوار ولا متعزز لأن الواقعة في فتح مكة لما حضرت هند للمبايعة ، وذكر صلى الله عليه وسلم فيها أن لا يسرقن ، فذكرت هند ذلك ، واعترضه غيره بأنه لم يحلفها ولم يقدر المحكوم به لها ولم يحرر دعوى على ما شرطوه ، والدليل الواضح أنه صح عن عمر وعثمان رضي الله عنهما القضاء على الغائب ولا مخالف لهما من الصحابة واتفاقهم على سماع البينة عليه فالحكم مثلها ، والقياس على سماعها على ميت وصغير مع أنهما أعجز عن الدفع عن الغائب ، وإنما تسمع الدعوى عليه بشروطها الآتية في بابها مع زيادة شروط أخرى . منها أنها لا تسمع عليه إلا ( إن كانت عليه ) حجة يعلمها الحاكم وقت الدعوى على ما دل عليه كلامهم وإن اعترضه البلقيني وجوز سماعها إذا حدث بعدها علم البينة وتحملها ، وهو الأوجه . ثم تلك الحجة إما ( بينة ) ولو شاهدا ويمينا فيما يقضى فيه بهما ، وإما علم القاضي دون ما عداهما لتعذر الإقرار واليمين المردودة ( وادعى المدعي جحوده ) وأنه يلزمه تسليمه له [ ص: 269 ] الآن وأنه يطالبه بذلك ( فإن قال هو مقر ) وأنا أقيم البينة استظهارا مخافة أن ينكر أو ليكتب بها القاضي إلى قاضي بلد الغائب ( لم تسمع بينته ) وإن قال هو ممتنع وذلك لأنها لا تقام على مقر ، ولا أثر لقوله مخافة أن ينكر خلافا للبلقيني ، ويؤخذ منه عدم سماع الدعوى على غائب بوديعة للمدعي في يده لانتفاء الحاجة لذلك لكون المودع متمكنا من دعوى التلف أو الرد ، وما بحثه العراقي من سماع الدعوى بأن له تحت يده وديعة وسماع بينته بها لكن لا يحكم ولا يوفيه من ماله ، إذ ليس له في ذمته شيء ، ومن ثم لو كان معه بينة بإتلافه لها أو تلفها عنده بتقصير سمعها وحكم ووفاه من ماله لأن بدلها حينئذ من جملة الديون . قال : وإنما جوزنا ذلك لاحتمال جحود المودع وتعذر البينة فيضبطها عند القاضي بإقامتها لديه وإشهاده على نفسه بثبوت ذلك ليستغني بإقامتها عند جحود المودع إذا حضر لأنها قد تتعذر حينئذ مبني على ما نظر إليه شيخه البلقيني من أن مخافة إنكاره مسوغ لسماع الدعوى عليه . ويستثنى ما إذا كان للغائب عين حاضرة في عمل الحاكم الذي وقعت عنده الدعوى ، ولو لم يكن ببلده وأراد إقامة البينة على دينه ليوفيه فتسمع البينة وإن قال هو مقر ، وما استثناه البلقيني من أنه لو كان ممن لا يقبل إقراره لسفه أو نحوه لم يمنع قوله هو مقر من سماعها أو كانت بينته شاهدة بالإقرار فإنه يقول عند إرادة مطابقة دعواه بينته هو مقر لي بكذا ولي بينة ممنوع في الأخيرة ( وإن أطلق ) ولم يتعرض لجحود ولا إقرار ( فالأصح أنها تسمع ) لأنه قد يعلم جحوده في غيبته ويحتاج إلى إثبات الحق فتجعل غيبته ككسوته . والثاني لا تسمع إلا عند التعرض للجحود ولأن البينة إنما يحتاج إليها عنده ( و ) الأصح ( أنه لا يلزم القاضي نصب مسخر ) بفتح الخاء المشددة ( ينكر عن الغائب ) ومن في معناه مما يأتي لأنه قد يكون مقرا فيكون إنكار المسخر كذبا ، نعم يستحب نصبه كما صرح به في الأنوار وغيره ، والثاني يلزمه لتكون البينة على إنكار منكر ( ويجب ) فيما إذا لم يكن للغائب وكيل حاضر ، سواء أكانت الدعوى بدين أم عين أم بصحة عقد أم إبراء كأن أحال الغائب على مدين له حاضر فادعى إبراءه لاحتمال دعوى أنه مكره عليه ( أن يحلفه بعد البينة ) وتعديلها ( أن الحق ثابت له في ذمته ) إلى الآن احتياطا للمحكوم عليه لأنه لو كان حاضرا لربما ادعى أداء أو إبراء أو نحوهما ، ولا بد أن يقول مع ذلك وأنه يلزمه تسليمه إلي لأنه قد يكون عليه ولا يلزمه أداؤه لتأجيل أو نحوه وظاهر كما قاله البلقيني أن هذا لا يتأتى في الدعوى بعين بل يحلف فيها على ما يليق بها ، وكذا نحو الإبراء كما يأتي ، ويعتبر أن يتعرض مع الثبوت ولزوم التسليم إلى أنه لا يعلم أن في شهوده قادحا في الشهادة مطلقا أو بالنسبة للغائب كفسق وعداوة وتهمة بناء على الأصح [ ص: 270 ] أن المدعى عليه لو كان حاضرا وطلب تحليف المدعي على ذلك أجيب ، ولا يبطل الحق بتأخير هذه اليمين ، ولا ترتد بالرد لأنها ليست مكملة للحجة وإنما هي شرط للحكم ، ولو ثبت الحق وحلف ثم نقل إلى حاكم آخر ليحكم به فالأوجه عدم وجوب إعادتها . أما إذا كان له وكيل حاضر فإنه يتوقف التحليف على طلبه كما اقتضاه كلامهما واعتمده ابن الرفعة ، وما استشكل به في التوشيح من أنه حيث كان له وكيل حاضر لم يكن قضاء على غائب ولم يجب يمين جزما يمكن رده بأن العبرة بالخصومات في نحو اليمين بالموكل لا بالوكيل ، ويؤيد ذلك قول البلقيني للقاضي سماع الدعوى على غائب وإن حضر وكيله لوجود الغيبة المسوغة للحكم عليه ، والقضاء إنما يقع عليه ، وخرج بقوله إن الحق ثابت في ذمته ما لو لم يكن كذلك كدعوى قن عتقا أو امرأة طلاقا على غائب وشهدت البينة حسبة على إقراره به فلا يحتاج ليمين إذ لاحظ جهة الحسبة ، وبه أفتى ابن الصلاح في العتق ، وألحق به البغوي الطلاق ونحوه من حقوق الله تعالى المتعلقة بشخص معين ، بخلاف ما لو ادعى عليه نحو بيع وأقام بينة به وطلب الحكم بثبوته فإنه يجيبه إلى ذلك خلافا لما وقع في الجواهر ، وحينئذ فيجب تحليفه خوفا من مفسد قارن العقد أو طرو مزيل له ، ويكفي أنه الآن مستحق لما ادعاه ( وقيل يستحب ) التحليف لإمكان التدارك إن كان ثم دافع نعم لو غاب الموكل في محل تسمع عليه الدعوى وهو به لم يتوقف الحكم بما ادعى به وكيله على حلف بخلاف ما لو كان في محل لا يسوغ سماع الدعوى عليه وهو به فلا بد لصحة الحكم من حلفه ( ويجريان ) أي الوجهان كما قبلهما من الأحكام ( في دعوى على صبي أو مجنون ) لا ولي له أو له ولي ولم يطلب إذ اليمين لا تتوقف على طلبه ، وميت ليس له وارث خاص حاضر كالغائب بل أولى لعجزهم عن التدارك ، فإذا كملا أو قدم الغائب فهم على حجتهم . أما من له وارث خاص حاضر كامل فلا بد في تحليف خصمه بعد البينة من طلبه والفرق بينه وبين ما مر في الولي واضح ومن ثم لو كان على الولي دين مستغرق لم يتوقف على طلبه ما لم يحضر معه جميع الغرماء مع سكوتهم . [ ص: 271 ] نعم لو كان سكوته عن طلبها لجهله بالحال عرفه الحاكم ، فإن لم يطلبها قضى عليه بدونها

                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                            حاشية الشبراملسي

                                                                                                                            [ ص: 268 ] باب القضاء على الغائب )

                                                                                                                            ( قوله : ولتمكنه ) أي المدعى عليه ( قوله عن كيفية الدعوى ) أي الأولى ، وقوله لأن تحريرها إليه أي القاضي ( قوله : واعترضه ) أي القول بأنه قضاء ( قوله : والقياس على سماعها ) عطف على قوله القضاء ( قوله : ولو شاهدا ويمينا ) هل يجب مع هذه اليمين يمين الاستظهار أم يكتفى بها الأقرب الأول . ثم رأيت الدميري صرح بذلك حيث قال ما نصه : فرع : يجوز القضاء على الغائب بشاهد ويمين كالحاضر ، وهل يكفي يمين أم يشترط يمينان إحداهما لتكميل الحجة والثانية لنفي المسقطات ؟ وجهان ، أصحهما الثاني ا هـ . ويصرح به إبقاء الشارح للمتن على إطلاقه في قوله الآتي ويجب أن يحلفه بعد البينة ، فإن الظاهر منه أن اللام للعهد ، وأن المراد البينة السابقة في قوله هنا إن كان عليه بينة ، وقد شرحها الشارح كما ترى بقوله ولو شاهدا ويمينا ، فإن الجمع بين العبارتين أفاد أنه لا بد من [ ص: 269 ] يمين ثانية للاستظهار بعد اليمين المكملة للحجة وهذا فرضه في الغائب ، ثم قال : ويجريان في الصبي والمجنون ، وزاد الشارح الميت وبين المراد من قوله ويجريان بقوله : أي الوجهان كما قبلهما من الأحكام ، وهو صريح في أن المراد بالبينة في المسائل الثلاث ما يشمل الشاهد واليمين كالدعوى على الغائب ، وأنه حيث كانت البينة شاهدا مع يمين فلا بد من يمين ثانية للاستظهار كما مر ( قوله : فإن قال هو مقر ) أي وهو ممن يقبل إقراره كما يأتي ( قوله : ويؤخذ منه ) أي من قول المصنف هو مقر ( قوله من أنه لو كان ) أي الغائب ( قوله : في الأخيرة ) هي قوله أو كانت بينته شاهدة إلخ ( قوله كما صرح في الأنوار ) أي وينبغي له أن يوري في إنكاره على الغائب ( قوله : بل يحلف فيها على ما يليق بها ) أي كأن يقول والعين باقية تحت يده يلزمه تسليمها إلى إلخ [ ص: 270 ] قوله ولا يبطل الحق بتأخير هذه ) أي عن اليوم الذي وقعت فيه الدعوى ( قوله : ولا ترتد بالرد ) أي بأن يردها على الغائب ويوقف الأمر إلى حضوره أو يطلب الإنهاء إلى حاكم بلده ليحلفه ( قوله : فإنه يتوقف التحليف على طلبه ) أي حيث وقعت الدعوى على الوكيل فإن وقعت على الموكل لم يتوقف على ذلك حج بالمعنى ( قوله : على إقراره به ) أفرد الضمير لكون العطف بأو ( قوله : نعم لو غاب ) هو استدراك على قول المصنف ويجب أن يحلفه إلخ ( قوله ولم يطلب ) الأولى وإن لم يطلب ( قوله : والفرق بينه وبين ما مر في الولي واضح ) أي وهو أن الحق في هذه يتعلق بالتركة التي هي للوارث فتركه لطلب اليمين إسقاط لحقه ، بخلاف الولي فإنه إنما يتصرف عن الصبي بالمصلحة ( قوله : ومن ثم لو كان على الولي ) أي [ ص: 271 ] ولي الميت ومراده به الوارث ، وعبارة حج : على الميت ، وهي واضحة



                                                                                                                            حاشية المغربي

                                                                                                                            [ ص: 268 ] باب القضاء على الغائب )

                                                                                                                            ( قوله : ولتمكنه ) أي بعد حضوره ( قوله : وليس له سؤال القاضي ) قيده في التحفة بالقاضي الأهل ، وأسقطه الشارح لعله قصدا فليراجع ( قوله : واعترضه ) أي الدليل أيضا ( قوله واتفاقهم على سماع البينة عليه ) أي بعد سماع الدعوى عليه في حضوره كما هو ظاهر ( قوله : وإن اعترضه ) أي اعترض اشتراط علم القاضي بالبينة كما هو صريح السياق ، لكن الواقع أن البلقيني إنما نازع في اشتراط علم المدعي بها بل وفي وجودها حينئذ من أصلها كما يعلم من حواشي والد الشارح ( قوله : أو تحملها ) هو بالرفع : أي أو حدث تحملها ، ولعل صورته أن تسمع إقرار الغائب بعد وقوع الدعوى ( قوله : وهو الأوجه ) انظر هل هو راجع لاعتراض البلقيني أو لما قبله ، فإن كان راجعا لاعتراض البلقيني فكان ينبغي حذف لفظ إن من قوله وإن اعترضه إلخ ( قوله : وأنه يلزمه تسليمه إلخ ) صريح هذا مع قوله فيما مر مع زيادة شروط أخرى إلخ أن ذكر لزوم التسليم والمطالبة من الزائد على الشروط [ ص: 269 ] الآتية وليس كذلك ( قوله : أو ليكتب بها ) انظر هو معطوف على ماذا ( قوله : في المتن وأنه لا يلزم القاضي نصب مسخر ) هو معطوف على الجزاء مع قطع النظر عن الشرط وانظر هل مثل ذلك سائغ ( قوله : نعم يستحب نصبه ) انظره مع العلة قبله ( قوله : وظاهر كما قاله البلقيني أن هذا ) أي ما في المتن ( قوله : مطلقا أو بالنسبة للغائب ) ظاهره أنه يكتفى منه بأحد هذين ، والظاهر أنه كذلك لتلازمهما كما يعلم بالتأمل [ ص: 270 ] قوله : يمكن رده بأن العبرة إلخ ) عبارة التحفة وفيه نظر لأن العبرة إلخ وهي أولى من عبارة الشارح كما لا يخفى ( قوله : وشهدت البينة حسبة ) انظر ما وجه كونها حسبة مع أن الفرض وجود الدعوى ، ويمكن تصويره بأن تشهد البينة بعد الدعوى من غير طلب وإن كان الأمر غير محتاج إلى ذلك ، على أن كلام ابن الصلاح الذي نقله الأذرعي وقاس عليه ما يأتي ليس فيه ذكر الدعوى ( قوله : أو بالإقرار به ) كذا في بعض النسخ تبعا للتحفة كغيرها وهو ساقط في بعضها ، وذكر الشهاب ابن قاسم أنه استشكله مع ما مر من أن ذكر الإقرار مانع من صحة الدعوى على الغائب ، وأنه بحث في ذلك مع الشارح فضرب عليه في شرحه بعد أن أثبته . وأقول : لا إشكال لأن المانع من سماع الدعوى ذكر أنه مقر في الحال وهو غير ذكر إقراره بالبيع لجواز أنه أقر للبينة ثم أنكر الآن ( قوله : لم يتوقف الحكم بما ادعى به وكيله ) أي على غائب ، وقوله على حلف : أي من الموكل ، على أنه لا حاجة إلى هذا لأنه عين المتن الآتي




                                                                                                                            الخدمات العلمية