الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 502 ] وقال : فصل وأما قصد الصلاة والدعاء والعبادة في مكان لم يقصد الأنبياء فيه الصلاة والعبادة بل روي أنهم مروا به ونزلوا فيه أو سكنوه : فهذا كما تقدم لم يكن ابن عمر ولا غيره يفعله ; فإنه ليس فيه متابعتهم لا في عمل عملوه ولا قصد قصدوه ومعلوم أن الأمكنة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يحل فيها : إما في سفره وإما في مقامه : مثل طرقه في حجه وغزواته ومنازله في أسفاره ومثل بيوته التي كان يسكنها والبيوت التي كان يأتي إليها أحيانا من { فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك } .

                فهذه نصوصه الصريحة توجب تحريم اتخاذ قبورهم مساجد مع أنهم مدفونون فيها وهم أحياء في قبورهم ويستحب إتيان قبورهم للسلام عليهم ومع هذا يحرم إتيانها للصلاة عندها واتخاذها مساجد .

                ومعلوم أن هذا إنما نهى عنه لأنه ذريعة إلى الشرك وأراد أن [ ص: 503 ] تكون المساجد خالصة لله تعالى تبنى لأجل عبادته فقط لا يشركه في ذلك مخلوق فإذا بني المسجد لأجل ميت كان حراما فكذلك إذا كان لأثر آخر فإن الشرك في الموضعين حاصل . ولهذا كانت النصارى يبنون الكنائس على قبر النبي والرجل الصالح وعلى أثره وباسمه . وهذا الذي خاف عمر رضي الله عنه أن يقع فيه المسلمون وهو الذي قصد النبي صلى الله عليه وسلم منع أمته منه كما قال الله تعالى : { وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا } وقال تعالى : { قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين } وقال تعالى : { ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون } { إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين

                } ولو كان هذا مستحبا لكان يستحب للصحابة والتابعين أن يصلوا في جميع حجر أزواجه وفي كل مكان نزل فيه في غزواته أو أسفاره . ولكان يستحب أن يبنوا هناك مساجد ولم يفعل السلف شيئا من ذلك .

                ولم يشرع الله تعالى للمسلمين مكانا يقصد للصلاة إلا المسجد . ولا مكانا يقصد للعبادة إلا المشاعر . فمشاعر الحج كعرفة ومزدلفة ومنى [ ص: 504 ] تقصد بالذكر والدعاء والتكبير لا الصلاة بخلاف المساجد فإنها هي التي تقصد للصلاة وما ثم مكان يقصد بعينه إلا المساجد والمشاعر وفيها الصلاة والنسك قال تعالى : { قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين } { لا شريك له وبذلك أمرت } وما سوى ذلك من البقاع فإنه لا يستحب قصد بقعة بعينها للصلاة ولا الدعاء ولا الذكر إذ لم يأت في شرع الله ورسوله قصدها لذلك وإن كان مسكنا لنبي أو منزلا أو ممرا .

                فإن الدين أصله متابعة النبي صلى الله عليه وسلم وموافقته بفعل ما أمرنا به وشرعه لنا وسنه لنا ونقتدي به في أفعاله التي شرع لنا الاقتداء به فيها بخلاف ما كان من خصائصه .

                فأما الفعل الذي لم يشرعه هو لنا ولا أمرنا به ولا فعله فعلا سن لنا أن نتأسى به فيه فهذا ليس من العبادات والقرب فاتخاذ هذا قربة مخالفة له صلى الله عليه وسلم . وما فعله من المباحات على غير وجه التعبد يجوز لنا أن نفعله مباحا كما فعله مباحا ; ولكن هل يشرع لنا أن نجعله عبادة وقربة ؟ فيه قولان كما تقدم . وأكثر السلف والعلماء على أنا لا نجعله عبادة وقربة بل نتبعه فيه ; فإن فعله مباحا فعلناه مباحا وإن فعله قربة فعلناه قربة . ومن جعله عبادة رأى أن ذلك من تمام التأسي به والتشبه به ورأى أن في ذلك بركة لكونه مختصا به نوع اختصاص .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية