الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                        صفحة جزء


                        [ ص: 607 ] هذا الباب يضطر إلى الكلام فيه عند النظر فيما هو بدعة وما ليس ببدعة فإن كثيرا من الناس عدوا أكثر المصالح المرسلة بدعا ، ونسبوها إلى الصحابة والتابعين ، وجعلوها حجة فيما ذهبوا إليه من اختراع العبادات . وقوم جعلوا البدع تنقسم بأقسام أحكام الشريعة ، فقالوا : إن منها ما هو واجب ومندوب ، وعدوا من الواجب كتب المصحف وغيره ، ومن المندوب الاجتماع في قيام رمضان على قارئ واحد .

                        وأيضا ؛ فإن المصالح المرسلة يرجع معناها إلى اعتبار المناسب الذي لا يشهد له أصل معين ، فليس له على هذا شاهد شرعي على الخصوص ، ولا كونه قياسا بحيث إذا عرض على العقول تلقته بالقبول . وهذا بعينه موجود في البدع المستحسنة ، فإنها راجعة إلى أمور في الدين مصلحية ـ في زعم واضعيها ـ في الشرع على الخصوص

                        وإذا ثبت هذا ، فإن كان اعتبار المصالح المرسلة حقا ، فاعتبار البدع المستحسنة حق ، لأنهما يجريان من واد واحد . وإن لم يكن اعتبار البدع [ ص: 608 ] حقا ، لم يصح اعتبار المصالح المرسلة .

                        وأيضا ؛ فإن القول بالمصالح المرسلة ليس متفقا عليه ، بل قد اختلف فيه أهل الأصول على أربعة أقوال . فذهب القاضي وطائفة من الأصوليين إلى رده ، وأن المعنى لا يعتبر ما لم يستند إلى أصل . وذهب مالك إلى اعتبار ذلك ، وبنى الأحكام عليه على الإطلاق ، وذهب الشافعي ومعظم الحنفية إلى التمسك بالمعنى الذي لم يستند إلى أصل صحيح ، لكن بشرط قربه من معاني الأصول الثابتة هذا ما حكى الإمام الجويني .

                        وذهب الغزالي إلى أن المناسب إن وقع في رتبة التحسين والتزيين لم يعتبر حتى يشهد له أصل معين ، وإن وقع في رتبة الضروري فميله إلى قبوله ، لكن بشرط .

                        قال : ولا يبعد أن يؤدي إليه اجتهاد مجتهد . واختلف قوله في الرتبة المتوسطة ، وهي رتبة الحاجي ، فرده في " المستصفى " وهو آخر قوليه ، وقبله في " شفاء العليل " كما قبل ما قبله .

                        وإذا اعتبر من الغزالي اختلاف قوله ، فالأقوال خمسة ، فإذا الراد لاعتبارها لا يبقى له في الوقائع الصحابية مستند إلا أنها بدعة مستحسنة ـ كما قال عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ في الاجتماع [ ص: 609 ] لقيام رمضان : نعمت البدعة هذه ـ إذ لا يمكنهم ردها ، لاجتماعهم عليها .

                        وكذلك القول في الاستحسان ؛ فإنه على ما ذهب إليه المتقدمون راجع إلى الحكم بغير دليل ، والنافي له لا يعد الاستحسان سببا ؛ فلا يعتبر في الأحكام ألبتة ، فصار كالمصالح المرسلة إذا قيل بردها .

                        فلما كان هذا الموضع مزلة قدم ، لأهل البدع أن يستدلوا على بدعتهم من جهته ؛ كان الحق المتعين النظر في مناط الغلط الواقع لهؤلاء ، حتى يتبين أن المصالح المرسلة ليست من البدع في ورد ولا صدر ، بحول الله ، والله الموفق .

                        فنقول :

                        التالي السابق


                        الخدمات العلمية