الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                      صفحة جزء
                                                                                      [ ص: 338 ] القاضي الفاضل

                                                                                      المولى الإمام العلامة البليغ ، القاضي الفاضل محيي الدين ، يمين المملكة ، سيد الفصحاء ، أبو علي عبد الرحيم بن علي بن الحسن بن [ ص: 339 ] الحسن بن أحمد بن المفرج اللخمي ، الشامي ، البيساني الأصل ، العسقلاني المولد ، المصري الدار ، الكاتب ، صاحب ديوان الإنشاء الصلاحي .

                                                                                      ولد سنة تسع وعشرين وخمسمائة .

                                                                                      سمع في الكهولة من أبي طاهر السلفي ، وأبي محمد العثماني ، وأبي القاسم ابن عساكر ، وأبي الطاهر بن عوف ، وعثمان بن فرج العبدري .

                                                                                      وروى اليسير .

                                                                                      وفي انتسابه إلى بيسان تجوز ، فما هو منها ، بل قد ولي أبوه القاضي الأشرف أبو الحسن قضاءها .

                                                                                      انتهت إلى القاضي الفاضل براعة الترسل وبلاغة الإنشاء ، وله في ذلك الفن اليد البيضاء ، والمعاني المبتكرة ، والباع الأطول ، لا يدرك شأوه ، ولا يشق غباره ، مع الكثرة .

                                                                                      قال ابن خلكان يقال إن مسودات رسائله ما يقصر عن مائة مجلد ، وله النظم الكثير . أخذ الصنعة عن الموفق يوسف بن الخلال صاحب الإنشاء للعاضد ثم خدم بالثغر مدة ، ثم طلبه ولد الصالح بن رزيك ، [ ص: 340 ] واستخدمه في ديوان الإنشاء .

                                                                                      قال العماد : قضى سعيدا ، ولم يبق عملا صالحا إلا قدمه ، ولا عهدا في الجنة إلا أحكمه ، ولا عقد بر إلا أبرمه ، فإن صنائعه في الرقاب ، وأوقافه متجاوزة الحساب ، لا سيما أوقافه لفكاك الأسرى ، وأعان المالكية والشافعية بالمدرسة ، والأيتام بالكتاب ، كان للحقوق قاضيا ، وفي الحقائق ماضيا ، والسلطان له مطيع ، ما افتتح الأقاليم إلا بأقاليد آرائه ، ومقاليد غناه وغنائه ، وكنت من حسناته محسوبا ، وإلى آلائه منسوبا ، وكانت كتابته كتائب النصر ، ويراعته رائعة الدهر ، وبراعته بارية للبر ، وعبارته نافثة في عقد السحر ، وبلاغته للدولة مجملة ، وللمملكة مكملة ، وللعصر الصلاحي على سائر الأعصار مفضلة . نسخ أساليب القدماء بما أقدمه من الأساليب ، وأعربه من الإبداع ، ما ألفيته كرر دعاء في مكاتبة ، ولا ردد لفظا في مخاطبة . إلى أن قال : فإلى من بعده الوفادة ؟ وممن الإفادة؟ وفيمن السيادة ؟ ولمن السعادة ؟

                                                                                      وقال ابن خلكان : وزر للسلطان صلاح الدين بن أيوب ، فقال هبة الله بن سناء الملك قصيدة منها :

                                                                                      قال الزمان لغيره لو رامها تربت يمينك لست من أربابها     اذهب طريقك لست من أربابها
                                                                                      وارجع وراءك لست من أترابها      [ ص: 341 ] وبعز سيدنا وسيد غيرنا
                                                                                      ذلت من الأيام شمس صعابها     وأتت سعادته إلى أبوابه
                                                                                      لا كالذي يسعى إلى أبوابها     فلتفخر الدنيا بسائس ملكها
                                                                                      منه ودارس علمها وكتابها     صوامها قوامها علامها
                                                                                      عمالها بذالها وهابها

                                                                                      وبلغنا أن كتبه التي ملكها بلغت مائة ألف مجلد ، وكان يحصلها من سائر البلاد .

                                                                                      حكى القاضي ضياء الدين بن الشهرزوري أن القاضي الفاضل لما سمع أن العادل أخذ مصر دعا بالموت خشية أن يستدعيه وزيره ابن شكر ، أو يهينه ، فأصبح ميتا ، وكان ذا تهجد ومعاملة .

                                                                                      وللعماد في " الخريدة " : وقبل شروعي في أعيان مصر - أقدم ذكر من جميع أفاضل العصر كالقطرة في بحره المولى القاضي الفاضل . إلى أن قال : فهو كالشريعة المحمدية نسخت الشرائع ، يخترع الأفكار ، ويفترع الأبكار هو ضابط الملك بآرائه ، ورابط السلك بآلائه ، إنشاء ، أنشأ في يوم ما لو دون لكان لأهل الصناعة خير [ ص: 342 ] بضاعة ، أين قس من فصاحته ، وقيس في حصافته ، ومن حاتم وعمرو في سماحته وحماسته لا من في فعله ، ولا مين في قوله ، ذو الوفاء والمروءة والصفاء والفتوة ، وهو من الأولياء الذين خصوا بالكرامة ، لا يفتر مع ما يتولاه من نوافل صلاته ونوافل صلاته ، يتلو كل يوم . . إلى أن قال : وأنا أوثر أن أفرد لنظمه ونثره كتابا .

                                                                                      قيل : كان القاضي أحدب ، فحدثني شيخنا أبو إسحاق الفاضلي أن القاضي الفاضل ذهب في الرسلية إلى صاحب الموصل ، فأحضرت فواكه ، فقال بعض الكبار منكتا : خياركم أحدب ، يوري بذلك ، فقال الفاضل : خسنا خير من خياركم .

                                                                                      قال الحافظ المنذري : ركن إليه السلطان ركونا تاما ، وتقدم عنده كثيرا ، وكان كثير البر ، وله آثار جميلة . توفي ليلة سابع ربيع الآخر سنة ست وتسعين وخمسمائة .

                                                                                      [ ص: 343 ] وقال الموفق عبد اللطيف : كانوا ثلاثة إخوة : أحدهم : خدم بالإسكندرية ، وخلف من الخواتيم صناديق ، ومن الحصر والقدور بيوتا مملوءة ، وكان متى سمع بخاتم ، سعى في تحصيله .

                                                                                      وأما الآخر : فكان له هوس مفرط في تحصيل الكتب ، عنده نحو مائتي ألف كتاب .

                                                                                      والثالث : القاضي الفاضل كان ذا غرام بالكتابة وبالكتب أيضا ، له الدين ، والعفاف ، والتقى ، مواظب على أوراد الليل والصيام والتلاوة .

                                                                                      لما تملك أسد الدين ، أحضره ، فأعجب به ، ثم استخلصه صلاح الدين لنفسه ، وكان قليل اللذات ، كثير الحسنات ، دائم التهجد ، يشتغل بالتفسير والأدب ، وكان قليل النحو ، لكنه له دربة قوية ، كتب من الإنشاء ما لم يكتبه أحد ، أعرف عند ابن سناء الملك من إنشائه اثنين وعشرين مجلدا ، وعند ابن القطان عشرين مجلدا ، وكان متقللا في مطعمه ومنكحه وملبسه ، لباسه البياض ، ويركب معه غلام وركابي ، ولا يمكن أحدا أن يصحبه ، ويكثر تشييع الجنائز ، وعيادة المرضى ، وله معروف معروف في السر والعلانية ، ضعيف البنية ، رقيق الصورة ، له حدبة يغطيها الطيلسان ، وكان فيه سوء خلق يكمد به نفسه ، ولا يضر أحدا به ، ولأصحاب العلم عنده نفاق ، يحسن إليهم ، ولم يكن له انتقام من أعدائه إلا بالإحسان أو الإعراض عنهم ، وكان دخله ومعلومه في العام نحوا من خمسين ألف دينار سوى متاجر الهند والمغرب . توفي مسكوتا أحوج ما كان إلى الموت عند تولي الإقبال . وإقبال الإدبار ، وهذا يدل على أن لله به عناية .

                                                                                      [ ص: 344 ]

                                                                                      قال العماد : تمت الرزية بانتقال القاضي الفاضل من دار الفناء إلى دار البقاء في منزله بالقاهرة في سادس ربيع الآخر ، وكان ليلتئذ صلى العشاء ، وجلس مع مدرس مدرسته ، وتحدث معه ما شاء ، وانفصل إلى منزله صحيحا ، وقال لغلامه : رتب حوائج الحمام ، وعرفني حتى أقضي منى المنام ، فوافاه سحرا ، فما اكترث بصوته ، فبادر إليه ولده ، فألفاه وهو ساكت باهت ، فلبث يومه لا يسمع له إلا أنين خفي ، ثم قضى -رحمه الله .

                                                                                      قيل : وقف منجم على طالع القاضي ، فقال : هذه سعادة لا تسعها عسقلان .

                                                                                      حفظ القرآن ، وكتب ختمة ، ووقفها ، وقرأ " الجمع بين الصحيحين " على ابن فرح ، عن رجل ، عن الحميدي ، وصحب أبا الفتح محمود بن قادوس المنشئ ، وكان موت أبيه سنة 46 وكان لما جرى على أبيه نكبة اتصلت بموته ، ضرب ، وصودر حتى لم يبق له شيء ، ومضى إلى الإسكندرية ، وصحب بني حديد ، فاستخدموه .

                                                                                      قال جمال الدين بن نباتة : رأيت في بعض تعاليق القاضي : لما ركبت البحر من عسقلان إلى الإسكندرية ، كانت معي رزمة فيها ثياب ، ورزمة فيها مسودات ، فاحتاج الركاب أن يخففوا ، فأردت أن أرمي رزمة المسودات ، فغلطت ، ورميت رزمة القماش .

                                                                                      وذكر القاضي ابن شداد أن دخل القاضي كان في كل يوم خمسين دينارا .

                                                                                      التالي السابق


                                                                                      الخدمات العلمية