الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                      صفحة جزء
                                                                                      مصعب بن الزبير

                                                                                      ابن العوام القرشي الأسدي أمير العراقين . أبو عيسى وأبو عبد الله ، لا رواية له .

                                                                                      [ ص: 141 ] كان فارسا شجاعا ، جميلا وسيما ، حارب المختار وقتله ، وكان سفاكا للدماء ، سار لحربه عبد الملك بن مروان ، وأمه هي الرباب بنت أنيف الكلبية ، وكان يسمى -من سخائه- آنية النحل .

                                                                                      وفيه يقول عبيد الله بن قيس الرقيات :


                                                                                      إنما مصعب شهاب من الل ه تجلت عن وجهه الظلماء     ملكه ملك عز ليس فيه
                                                                                      جبروت منه ولا كبرياء     يتقي الله في الأمور وقد أف
                                                                                      لح من كان همه الاتقاء

                                                                                      قال إسماعيل بن أبي خالد : ما رأيت أميرا قط أحسن من مصعب .

                                                                                      وروى عمر بن أبي زائدة ، أن الشعبي قال : ما رأيت أميرا قط على منبر أحسن من مصعب .

                                                                                      قال المدائني : كان يحسد على الجمال .

                                                                                      وروى ابن أبي الزناد ، عن أبيه ، قال : اجتمع في الحجر عبد الله ، ومصعب ، وعروة -بنو الزبير - وابن عمر ، فقال : تمنوا ، فقال ابن الزبير أتمنى الخلافة ، وقال عروة : أتمنى أن يؤخذ عني العلم ، وقال مصعب : أتمنى إمرة العراق ، والجمع بين عائشة بنت طلحة ، وسكينة بنت الحسين .

                                                                                      فقال ابن عمر : أما أنا فأتمنى المغفرة . فنالوا ما تمنوا ، ولعل ابن عمر قد غفر له .

                                                                                      [ ص: 142 ] وكان عبد الملك ودودا لمصعب وصديقا .

                                                                                      قال علي بن زيد بن جدعان : بلغ مصعبا شيء عن عريف الأنصار ، فهم به ، فأتاه أنس فقال : سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول : استوصوا بالأنصار خيرا ; اقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم فألقى مصعب نفسه عن السرير وألزق خده بالبساط وقال : أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على العين والرأس ، وتركه أخرجه أحمد .

                                                                                      قال مصعب الزبيري : أهديت لمصعب نخلة من ذهب ، عثاكلها من صنوف الجوهر ، قومت بألفي ألف دينار ، كانت للفرس ، فدفعها إلى عبد الله بن أبي فروة .

                                                                                      قال أبو عاصم النبيل : كان ابن الزبير إذا كتب لأحد بجائزة ألف درهم جعلها مصعب مائة ألف .

                                                                                      وقد سئل سالم : أي ابني الزبير أشجع؟ قال : كلاهما جاء الموت وهو ينظر إليه .

                                                                                      وقيل : تذاكروا الشجعان ، فقال عبد الملك : أشجع العرب من ولي العراقين خمس سنين فأصاب ثلاثة آلاف ألف ، وتزوج بنت الحسين وبنت طلحة وبنت عبد الله بن عامر ، وأمه رباب بنت أنيف الكلبي سيد [ ص: 143 ] ضاحية العرب ، وأعطي الأمان فأبى ، ومشى بسيفه حتى قتل .

                                                                                      قال عبد الملك بن عمير : رأيت بقصر الكوفة رأس الحسين الشهيد ، ثم رأس ابن زياد ، ثم رأس المختار ، ثم رأس مصعب بين يدي عبد الملك .

                                                                                      قتل مصعب يوم نصف جمادى الأولى سنة اثنتين وسبعين . وله أربعون سنة .

                                                                                      وكان مصعب قد سار ليأخذ الشام ، فقصده عبد الملك ، فوقع بينهما ملحمة كبرى بدير الجاثليق بقرب أوانا .

                                                                                      وكان قد كاتب عبد الملك جماعة من الوجوه يمنيهم ويعدهم إمرة العراق وإمرة العجم ، فأجابوه إلا إبراهيم بن الأشتر ، فأتى مصعبا بكتابه وفيه : إن بايعتني وليتك العراق . وقال : قد كتبت إلى أصحابك ، فأطعني واضرب أعناقهم . قال : إذا تغضب عشائرهم . قال : فاسجنهم ، قال : فإني لفي شغل عن ذلك . يرحم الله الأحنف ، إن كان ليحذر غدر العراقيين .

                                                                                      وقيل : قال لهم قيس بن الهيثم : ويحكم ; لا تدخلوا أهل الشام عليكم منازلكم .

                                                                                      وأشار ابن الأشتر بقتل زياد بن عمرو ، ومالك بن مسمع ، فلما التقى الجمعان ، لحقوا بعبد الملك وهرب عتاب بن ورقاء ، وخذلوا مصعبا . فقال ابن قيس الرقيات [ ص: 144 ]

                                                                                      إن الرزية يوم مس     كن والمصيبة والفجيعه
                                                                                      بابن الحواري الذي     لم يعده يوم الوقيعه
                                                                                      غدرت به مضر العرا     ق وأمكنت منه ربيعه
                                                                                      فأصبت وترك يا ربي     ع وكنت سامعة مطيعه
                                                                                      يا لهف لو كانت له     بالدير يوم الدير شيعه
                                                                                      أولم يخونوا عهده     أهل العراق بنو اللكيعه
                                                                                      لوجدتموه حين يح     در لا يعرس بالمضيعه

                                                                                      وجعل مصعب كلما قال لمقدم من جيشه : تقدم لا يطيعه .

                                                                                      فقيل : أخبر عبد الله بن خازم السلمي أمير خراسان بمسير مصعب إلى عبد الملك ، فقال : أمعه عمر بن عبيد الله التيمي؟ قيل : لا ، ذاك استعمله على فارس . قال : أفمعه المهلب بن أبي صفرة؟ قيل : لا ، ولاه الموصل . قال : أمعه عباد بن حصين؟ قيل : استعمله على البصرة . فقال : وأنا هنا ثم تمثل :


                                                                                      خذيني وجريني ضباع وأبشري     بلحم امرئ لم يشهد اليوم ناصره

                                                                                      قال الطبري فقال مصعب لابنه عيسى : اركب بمن معك إلى عمك [ ص: 145 ] أمير المؤمنين فأخبره بما صنع أهل العراق ، ودعني فإني مقتول . قال : لا أخبر قريشا عنك أبدا ولكن سر إلى البصرة ، فهم على الطاعة ، أو الحق بأمير المؤمنين قال : لا تتحدث قريش أنني فررت لخذلان ربيعة ، وما السيف بعار وما الفرار لي بعادة ولا خلق ، ولكن إن أردت أن ترجع فارجع فقاتل . فرجع فقاتل حتى قتل . وبعث إليه عبد الملك مع أخيه محمد : إني -يا ابن العم- أمنتك . قال : مثلي لا ينصرف عن هذا المقام إلا غالبا أو مغلوبا . فقيل : أثخنوه بالسهام ثم طعنه زائدة الثقفي -وكان من جنده- وقال : يا لثارات المختار ، وقاتل قتلة ابن الأشتر حتى قتل ، واستولى عبد الملك على المشرق .

                                                                                      التالي السابق


                                                                                      الخدمات العلمية