الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          2492 حدثنا سويد بن نصر أخبرنا عبد الله بن المبارك عن محمد بن عجلان عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرجال يغشاهم الذل من كل مكان فيساقون إلى سجن في جهنم يسمى بولس تعلوهم نار الأنيار يسقون من عصارة أهل النار طينة الخبال قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          قوله : ( يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر ) أي في الصغر والحقارة ( في صور [ ص: 163 ] الرجال ) أي من جهة وجوههم . أو من حيثية هيئتهم من انتصاب القامة ( يغشاهم الذل ) أي يأتيهم ( من كل مكان ) أي من كل جانب . والمعنى أنهم يكونون في غاية من المذلة والنقيصة يطؤهم أهل الحشر بأرجلهم من هوانهم على الله . وفي النهاية : الذر النمل الأحمر الصغير واحدها ذرة ( يساقون ) بضم القاف أي يسحبون ويجرون ( إلى سجن ) أي مكان حبس مظلم مضيق منقطع فيه عن غيره ( يسمى ) أي ذلك السجن ( بولس ) قال في المجمع : هو بفتح باء وسكون واو وفتح لام . وقال في القاموس : بولس بضم الباء وفتح اللام سجن جهنم وقال الحافظ المنذري : هو بضم الموحدة وسكون الواو وفتح اللام ، انتهى ( تعلوهم ) أي تحيط بهم وتغشاهم كالماء يعلو الغريق ( نار الأنيار ) قال في النهاية : لم أجده مشروحا ولكن هكذا يروى ، فإن صحت الرواية فيحتمل أن يكون معناه نار النيران ، فجمع النار على أنيار وأصلها أنوار لأنها من الواو كما جاء في ريح وعيد أرياح وأعياد وهما من الواو ، انتهى .

                                                                                                          قيل : إنما جمع نار على أنيار وهو واوي لئلا يشتبه بجمع النور . قال القاضي : وإضافة النار إليها للمبالغة كأن هذه النار لفرط إحراقها وشدة حرها تفعل بسائر النيران ما تفعل النار بغيرها انتهى . قال القاري : أو لأنها أصل نيران العالم لقوله تعالى : الذي يصلى النار الكبرى ولقوله -صلى الله عليه وسلم- : ( ناركم هذه جزء من سبعين جزءا من نار جهنم ) على ما ذكره البيضاوي ، انتهى . ( ويسقون ) بصيغة المجهول ( من عصارة أهل النار ) بضم العين المهملة وهو ما يسيل منهم من الصديد والقيح والدم ( طينة الخبال ) بالجر بدل من عصارة أهل النار ، والخبال بفتح الخاء المعجمة وهو في الأصل الفساد ويكون في الأفعال والأبدان والعقول .

                                                                                                          قوله : ( هذا حديث حسن ) وأخرجه النسائي كما في الترغيب وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال : ( يجاء بالجبارين والمتكبرين رجالا في صور الذر يطؤهم الناس من هوانهم على الله حتى يقضى بين الناس ثم يذهب بهم إلى نار الأنيار )

                                                                                                          قيل : يا رسول الله وما نار الأنيار قال : ( عصارة أهل النار ) ذكره السيوطي في البدور السافرة في أحوال الآخرة .

                                                                                                          [ ص: 164 ] تنبيه : حمل بعضهم قوله -صلى الله عليه وسلم- : ( يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرجال ) على المجاز . قال التوربشتي : يحمل ذلك على المجاز دون الحقيقة . أي أذلاء مهانين يطؤهم الناس بأرجلهم وإنما منعنا على القول بظاهره ما أخبرنا به الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم- أن الأجساد تعاد على ما كانت عليه من الأجزاء حتى إنهم يحشرون غرلا يعاد منهم ما انفصل عنهم من القلفة ، وإلى هذا المعنى أشار بقوله : ( يغشاهم الذل من كل مكان ) . قال الأشرف : إنما قال " في صور الرجال " بعد قوله " أمثال الذر " قطعا منه : لحمل قوله " أمثال الذر " على الحقيقة ودفعا لوهم من يتوهم أن المتكبر لا يحشر في صورة الإنسان وتحقيقا لإعادة الأجساد المعدومة على ما كانت عليه من الأجزاء . وقال المظهر : يعني ؛ صورهم صور الإنسان وجثتهم كجثة الذر في الصغر .

                                                                                                          قال الطيبي : لفظ الحديث يساعد هذا المعنى لأن قوله " أمثال الذر " تشبيه لهم بالذر ولا بد من بيان وجه الشبه لأنه يحتمل أن يكون وجه الشبه الصغر في الجثة وأن يكون الحقارة والصغار فقوله " في صور الرجال " بيان للوجه ودفع وهم من يتوهم خلافه ، وأما قوله ( إن الأجساد تعاد على ما كانت عليه من الأجزاء ) فليس فيه أن لا تعاد تلك الأجزاء الأصلية في مثل الذر لأنه تعالى قادر عليه ، وفيه الخلاف المشهور بين الأصوليين وعلى هذه الحقارة ملزوم هذا التركيب فلا ينافي إرادة الجثة مع الحقارة .

                                                                                                          قلت : الظاهر هو الحمل على الحقيقة ولا مخالفة بين هذا الحديث والأحاديث التي تدل على أن الأجساد تعاد على ما كانت عليه من الأجزاء حتى إنهم يحشرون غرلا . قال القاري : التحقيق أن الله يعيدهم عند إخراجهم من قبورهم على أكمل صورهم وجمع أجزائهم المعدومة تحقيقا لوصف الإعادة على وجه الكمال ثم يجعلهم في موقف الجزاء على الصورة المذكورة إهانة وتذليلا لهم ، جزاء وفاقا ، أو يتصاغرون من الهيبة الإلهية عند مجيئهم إلى موضع الحساب وظهور أثر العقوبة السلطانية التي لو وضعت على الجبال لصارت هباء منثورا ، انتهى .




                                                                                                          الخدمات العلمية