الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                      صفحة جزء
                                                                                      [ ص: 46 ] أبو ذر ( ع )

                                                                                      جندب بن جنادة الغفاري ، وقيل : جندب بن سكن . وقيل : برير بن جنادة . وقيل : برير بن عبد الله .

                                                                                      ونبأني الدمياطي : أنه جندب بن جنادة بن سفيان بن عبيد بن حرام بن غفار - أخي ثعلبة - ابني مليل بن ضمرة ، أخي ليث والديل ، أولاد بكر ، أخي مرة ، والد مدلج بن مرة ، ابني عبد مناة بن كنانة .

                                                                                      قلت : أحد السابقين الأولين من نجباء أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم .

                                                                                      قيل : كان خامس خمسة في الإسلام . ثم إنه رد إلى بلاد قومه ، فأقام بها بأمر النبي صلى الله عليه وسلم له بذلك ، فلما أن هاجر النبي صلى الله عليه وسلم ، هاجر إليه أبو ذر رضي الله عنه ، ولازمه ، وجاهد معه .

                                                                                      وكان يفتي في خلافة أبي بكر ، وعمر ، وعثمان .

                                                                                      روى عنه : حذيفة بن أسيد الغفاري ، وابن عباس ، وأنس بن مالك ، وابن عمر ، وجبير بن نفير ، وأبو مسلم الخولاني ، وزيد بن وهب ، وأبو الأسود الدئلي ، وربعي بن حراش ، والمعرور بن سويد ، وزر بن حبيش ، وأبو سالم الجيشاني سفيان بن هانئ ، وعبد الرحمن بن غنم ، [ ص: 47 ] والأحنف بن قيس ، وقيس بن عباد ، وعبد الله بن الصامت ، وأبو عثمان النهدي ، وسويد بن غفلة ، وأبو مراوح ، وأبو إدريس الخولاني ، وسعيد بن المسيب ، وخرشة بن الحر ، وزيد بن ظبيان ، وصعصعة بن معاوية ، وأبو السليل ضريب بن نفير ، وعبد الله بن شقيق ، وعبد الرحمن بن أبي ليلى ، وعبيد بن عمير ، وغضيف بن الحارث ، وعاصم بن سفيان ، وعبيد بن الخشخاش ، وأبو مسلم الجذمي ، وعطاء بن يسار ، وموسى بن طلحة ، وأبو الشعثاء المحاربي ، ومورق العجلي ، ويزيد بن شريك التيمي ، وأبو الأحوص المدني - شيخ الزهري - وأبو أسماء الرحبي ، وأبو بصرة الغفاري ، وأبو العالية الرياحي ، وابن الحوتكية ، وجسرة بنت دجاجة .

                                                                                      فاتته بدر ، قاله أبو داود .

                                                                                      وقيل : كان آدم ضخما جسيما ، كث اللحية .

                                                                                      وكان رأسا في الزهد ، والصدق ، والعلم والعمل ، قوالا بالحق ، لا تأخذه في الله لومة لائم ، على حدة فيه .

                                                                                      وقد شهد فتح بيت المقدس مع عمر .

                                                                                      أخبرنا الخضر بن عبد الرحمن الأزدي وأحمد بن هبة الله قالا : أخبرنا زين الأمناء حسن بن محمد : أخبرنا علي بن الحسن الحافظ : حدثنا علي بن إبراهيم الحسيني : أخبرنا محمد بن علي بن سلوان : أخبرنا الفضل بن جعفر التميمي ، أخبرنا عبد الرحمن بن القاسم الهاشمي : حدثنا أبو مسهر :

                                                                                      [ ص: 48 ] حدثنا سعيد بن عبد العزيز ، عن ربيعة بن يزيد ، عن أبي إدريس الخولاني ، عن أبي ذر الغفاري ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عن جبريل ، عن الله - تبارك وتعالى - أنه قال : يا عبادي ، إني حرمت الظلم على نفسي ، وجعلته بينكم محرما ، فلا تظالموا . يا عبادي ، إنكم الذين تخطئون بالليل والنهار ، وأنا الذي أغفر الذنوب ولا أبالي ، فاستغفروني أغفر لكم . يا عبادي ، كلكم جائع إلا من أطعمته ، فاستطعموني أطعمكم . يا عبادي ، كلكم عار إلا من كسوته ، فاستكسوني أكسكم . يا عبادي ، لو أن أولكم وآخركم ، وإنسكم ، وجنكم ، كانوا على أفجر قلب رجل منكم ، لم ينقص ذلك من ملكي شيئا . يا عبادي ، لو أن أولكم وآخركم ، وإنسكم ، وجنكم ، كانوا على أتقى قلب رجل منكم ، لم يزد ذلك في ملكي شيئا . يا عبادي ، لو أن أولكم وآخركم ، وإنسكم ، وجنكم ، كانوا في صعيد واحد ، فسألوني ، فأعطيت كل واحد منهم ما سأل ، لم ينقص ذلك من ملكي شيئا ، إلا كما ينقص البحر أن يغمس المخيط غمسة واحدة . يا عبادي ، إنما هي أعمالكم أحفظها عليكم ، فمن وجد خيرا ، فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك ، فلا يلومن إلا نفسه .

                                                                                      قال سعيد : كان أبو إدريس إذا حدث بهذا الحديث جثا على ركبتيه .

                                                                                      أخرجه مسلم . [ ص: 49 ] نقل الواقدي ، عن خالد بن حيان ، قال : كان أبو ذر ، وأبو الدرداء في مظلتين من شعر بدمشق .

                                                                                      وقال أحمد بن البرقي : أبو ذر اسمه : يزيد بن جنادة .

                                                                                      وقال سعيد بن عبد العزيز : اسمه : برير .

                                                                                      قال أبو قلابة ، عن رجل عامري ، قال : كنت أعزب عن الماء ومعي أهلي ، فتصيبني الجنابة ، فوقع ذلك في نفسي ، فنعت لي أبو ذر ، فحججت ، فدخلت مسجد منى ، فعرفته ، فإذا شيخ معروق آدم عليه حلة قطري . [ ص: 50 ]

                                                                                      وقال حميد بن هلال : حدثني الأحنف بن قيس ، قال : قدمت المدينة ، فدخلت مسجدها ، فبينما أنا أصلي ، إذ دخل رجل طوال ، آدم أبيض الرأس واللحية ، محلوق ، يشبه بعضه بعضا ، فاتبعته فقلت : من هذا ؟ قالوا : أبو ذر .

                                                                                      سليمان بن المغيرة ، وابن عون ، عن حميد بن هلال ، عن عبد الله بن الصامت ، قال : قال أبو ذر : خرجنا من قومنا غفار ، وكانوا يحلون الشهر الحرام ، فخرجت أنا وأخي أنيس وأمنا ، فنزلنا على خال لنا ، فأكرمنا وأحسن ، فحسدنا قومه ، فقالوا : إنك إذا خرجت عن أهلك يخالفك إليهم أنيس ، فجاء خالنا ، فذكر لنا ما قيل له ، فقلت : أما ما مضى من معروفك ، فقد كدرته ، ولا جماع لك فيما بعد ، فقدمنا صرمتنا فاحتملنا عليها ، وجعل خالنا يبكي ، فانطلقنا حتى نزلنا بحضرة مكة ، فنافر أنيس عن صرمتنا وعن مثلها ، فأتيا الكاهن فخير أنيسا فأتانا أنيس بصرمتنا ومثلها معها .

                                                                                      قال : وقد صليت يا ابن أخي قبل أن ألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاث سنين . قلت : لمن ؟ قال : لله . قلت : أين توجه ؟ قال : حيث وجهني الله ، أصلي عشاء حتى إذا كان من آخر الليل ألقيت كأني خفاء حتى تعلوني الشمس . [ ص: 51 ]

                                                                                      فقال أنيس : إن لي حاجة بمكة ، فاكفني ، فانطلق أنيس حتى أتى مكة ، [ فراث علي ] ثم جاء ، فقلت : ما صنعت ؟ قال : لقيت رجلا بمكة على دينك ، يزعم أنه مرسل . قلت : فما يقول الناس ؟ قال : يقولون : شاعر ، كاهن ، ساحر . قال : وكان أنيس أحد الشعراء ، فقال : لقد سمعت قول الكهنة ، وما هو بقولهم ، ولقد وضعت قوله على أقوال الشعراء فما يلتئم على لسان أحد أنه شعر ، والله إنه لصادق ، وإنهم لكاذبون ! قلت : فاكفني حتى أذهب فأنظر ! .

                                                                                      فأتيت مكة ، فتضعفت رجلا منهم ، فقلت : من هذا الذي تدعونه الصابئ ؟ فأشار إلي ، فقال : الصابئ . قال : فمال علي أهل الوادي بكل مدرة وعظم ، حتى خررت مغشيا علي ، فارتفعت حين ارتفعت كأني نصب أحمر ، فأتيت زمزم ، فغسلت عني الدماء ، وشربت من مائها .

                                                                                      ولقد لبثت - يا ابن أخي - ثلاثين ، بين ليلة ويوم ما لي طعام إلا ماء زمزم ، فسمنت حتى تكسرت عكني ، وما وجدت على كبدي سخفة جوع .

                                                                                      فبينا أهل مكة في ليلة قمراء إضحيان جاءت امرأتان تطوفان ، [ ص: 52 ] وتدعوان إسافا ونائلة فأتتا علي في طوافهما ، فقلت : أنكحا أحدهما الآخر ، فما تناهتا عن قولهما فأتتا علي ، فقلت : هن مثل الخشبة ، غير أني لا أكني ، فانطلقتا تولولان ، تقولان : لو كان هاهنا أحد من أنفارنا ! فاستقبلهما رسول الله ، وأبو بكر ، وهما هابطتان ، فقال : ما لكما ؟ قالتا : الصابئ بين الكعبة وأستارها . قال : فما قال لكما ؟ قالتا : إنه قال كلمة تملأ الفم .

                                                                                      قال : وجاء رسول الله حتى استلم الحجر ، ثم طاف بالبيت ، هو وصاحبه ، ثم صلى . وكنت أول من حياه بتحية الإسلام . قال : عليك ورحمة الله ، من أين أنت ؟ قلت : من غفار ، فأهوى بيده ، ووضع أصابعه على جبهته .

                                                                                      فقلت في نفسي : كره أني انتميت إلى غفار ، فذهبت آخذ بيده ، فدفعني صاحبه ، وكان أعلم به مني .

                                                                                      قال : ثم رفع رأسه ، فقال : متى كنت هاهنا ؟ قلت : منذ ثلاثين من بين ليلة ويوم . قال : فمن كان يطعمك ؟ قلت : ما كان لي طعام إلا ماء زمزم ، فسمنت ، وما أجد على بطني سخفة جوع . قال : إنها مباركة ، إنها طعام طعم . [ ص: 53 ]

                                                                                      فقال أبو بكر : يا رسول الله ، ائذن لي في طعامه الليلة ، فانطلقنا ، ففتح أبو بكر بابا ، فجعل يقبض لنا من زبيب الطائف : فكان أول طعام أكلته بها .

                                                                                      وأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إنه قد وجهت لي أرض ذات نخل ، لا أراها إلا يثرب ، فهل أنت مبلغ عني قومك ، لعل الله أن ينفعهم بك ويأجرك فيهم ؟ .

                                                                                      قال : فانطلقت ، فلقيت أنيسا ، فقال : ما صنعت ؟ قلت : صنعت أني أسلمت وصدقت . قال : ما بي رغبة عن دينك ، فإني قد أسلمت وصدقت ، فأسلمت أمنا ، فاحتملنا حتى أتينا قومنا غفار ، فأسلم نصفهم ، وكان يؤمهم إيماء بن رحضة ، وكان سيدهم . وقال نصفهم : إذا قدم رسول الله المدينة أسلمنا ، فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، فأسلم نصفهم الباقي .

                                                                                      وجاءت أسلم ، فقالوا : يا رسول الله ، إخواننا ، نسلم على الذي أسلموا عليه ، فأسلموا .

                                                                                      فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : غفار غفر الله لها ، وأسلم ، سالمها الله
                                                                                      . أخرجه مسلم .

                                                                                      قال أبو جمرة : قال لنا ابن عباس : ألا أخبركم بإسلام أبي ذر ؟ قلنا : بلى . قال : قال أبو ذر : بلغني أن رجلا بمكة قد خرج ، يزعم أنه نبي ، فأرسلت أخي ليكلمه ، فقلت : انطلق إلى هذا الرجل ، فكلمه ، فانطلق فلقيه ، ثم رجع ، فقلت : ما عندك ؟ قال : والله ، لقد رأيت رجلا يأمر بالخير ، وينهى عن الشر . قلت : لم تشفني ، فأخذت جرابا وعصا ، ثم [ ص: 54 ] أقبلت إلى مكة ، فجعلت لا أعرفه وأكره أن أسأل عنه ، وأشرب من ماء زمزم ، وأكون في المسجد ، فمر علي بن أبي طالب فقال : هذا رجل غريب ؟ قلت : نعم . قال : انطلق إلى المنزل ، فانطلقت معه ، لا أسأله عن شيء ، ولا يخبرني .

                                                                                      فلما أصبح الغد ، جئت إلى المسجد لا أسأل عنه ، وليس أحد يخبرني عنه بشيء ، فمر بي علي فقال : أما آن للرجل أن يعود ؟ قلت : لا . قال : ما أمرك ، وما أقدمك ؟ قلت : إن كتمت علي أخبرتك ؟ قال : أفعل . قلت : قد بلغنا أنه قد خرج نبي . قال : أما قد رشدت ! هذا وجهي إليه ، فاتبعني وادخل حيث أدخل ، فإني إن رأيت أحدا أخافه عليك ، قمت إلى الحائط كأني أصلح نعلي ، وامض أنت .

                                                                                      فمضى ، ومضيت معه ، فدخلنا على النبي صلى الله عليه وسلم ، فقلت : يا رسول الله ، اعرض علي الإسلام ، فعرض علي ، فأسلمت مكاني ، فقال لي : يا أبا ذر ، اكتم هذا الأمر ، وارجع إلى قومك ، فإذا بلغك ظهورنا ، فأقبل ، فقلت : والذي بعثك بالحق ، لأصرخن بها بين أظهرهم .

                                                                                      فجاء إلى المسجد وقريش فيه ، فقال : يا معشر قريش ، إني أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله ، فقالوا : قوموا إلى هذا الصابئ ، فقاموا ، فضربت لأموت ، فأدركني العباس ، فأكب علي ، وقال : ويلكم تقتلون رجلا من غفار ، ومتجركم وممركم على غفار ! فأطلقوا عني ، فلما أصبحت ، رجعت ، فقلت مثلما قلت بالأمس ، فقالوا : قوموا إلى هذا الصابئ ، فصنع بي كذلك ، وأدركني العباس ، فأكب علي
                                                                                      .

                                                                                      فهذا أول إسلام أبي ذر . [ ص: 55 ] أخرجه : البخاري ومسلم من طريق المثنى بن سعيد ، عن أبي جمرة .

                                                                                      التالي السابق


                                                                                      الخدمات العلمية