الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب جلود الميتة إذا دبغت قوله تعالى : إنما حرم عليكم الميتة والدم وقوله تعالى : قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما يقتضي تحريم الميتة بجميع أجزائها ، وجلدها من أجزائها ؛ لأنه قد حله الموت بدلا من الحياة التي كانت فيه . إلا أن قوله : على طاعم يطعمه قد دل على الاقتصار بالتحريم على ما يتأتى فيه الأكل .

وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى في جلد الميتة بعد الدباغ بقوله : إنما حرم أكلها وإنما حرم لحمها وقد اختلف الفقهاء في حكم جلد الميتة بعد الدباغ ، فقال أبو حنيفة وأصحابه والحسن بن صالح وسفيان الثوري وعبيد الله بن الحسن العنبري والأوزاعي والشافعي : " يجوز بيعه بعد الدباغ والانتفاع به " قال الشافعي : إلا جلد الكلب والخنزير .

وأصحابنا لم يفرقوا بين جلد الكلب وغيره ، وجعلوه طاهرا بالدباغ إلا جلد الخنزير خاصة . وقال مالك : " ينتفع بجلود الميتة في الجلوس عليها ويغربل عليها ولا تباع ولا يصلى عليها " .

وقال الليث بن سعد : " لا بأس ببيع جلود الميتة قبل الدباغ إذا بينت أنها ميتة " . والحجة لمن طهرها وجعلها مذكاة ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من الآثار المتواترة من الوجوه المختلفة بألفاظ مختلفة كلها يوجب طهارتها والحكم بذكاتها ، فمنها حديث ابن عباس قال : أيما إهاب دبغ فقد طهر وحديث الحسن عن الجون بن قتادة عن سلمة بن المحبق : أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى في غزوة تبوك على بيت بفنائه قربة معلقة فاستسقى فقيل : إنها ميتة ، فقال : ذكاة الأديم دباغته .

وروى سعيد بن المسيب عن زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : دباغ جلود الميتة طهورها وسماك عن عكرمة عن سودة بنت زمعة قالت : كانت لنا شاة فماتت فطرحناها ، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ما فعلت شاتكم ؟ فقلنا : رميناها ، فتلا قوله تعالى : قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه الآية ، أفلا استمتعتم بإهابها فبعثنا إليها فسلخناها ودبغنا جلدها وجعلناه سقاء وشربنا فيه حتى صار شنا .

وقالت أم سلمة : مر النبي صلى الله عليه وسلم بشاة ميمونة فقال : ما على أهل هذه لو انتفعوا بإهابها والزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس عن ميمونة قالت : مر النبي صلى الله عليه وسلم بشاة لهم ميتة فقال : ألا دبغوا إهابها فانتفعوا به فقالوا : يا رسول الله إنها ميتة ، فقال : إنما حرم من الميتة أكلها في غير ذلك من الأخبار ، كلها يوجب طهارة جلد الميتة [ ص: 143 ] بعد الدباغ ، كرهت الإطالة بذكرها وهذه الأخبار كلها متواترة موجبة للعلم والعمل ، قاضية على الآية من وجهين :

أحدهما : ورودها من الجهات المختلفة التي يمنع مثلها التواطؤ والاتفاق على الوهم أو الغلط .

والثاني : جهة تلقي الفقهاء إياها بالقبول واستعمالهم لها . فثبت بذلك أنها مستعملة مع آية تحريم الميتة وأن المراد بالآية تحريمها قبل الدباغ ، وما قدمنا من دلالة قوله : على طاعم يطعمه أن المراد بالآية فيما يتأتى فيه الأكل ، والجلد بعد الدباغ خارج عن حد الأكل ، فلم يتناوله التحريم ، ومع ذلك فإن هذه الأخبار لا محالة بعد تحريم الميتة ، لولا ذلك لما رموا بالشاة الميتة ولما قالوا : إنها ميتة ، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ليقول : إنما حرم أكلها فدل ذلك على أن تحريم الميتة مقدم على هذه الأخبار ، وأن هذه الأخبار مبينة أن الجلد بعد الدباغ غير مراد بالآية ، ولما وافقنا مالك على جواز الانتفاع به بعد الدباغ فقد استعمل الأخبار الواردة في طهارتها ، ولا فرق في شيء منها بين افتراشها والصلاة عليها وبين أن تباع أو يصلى عليها ، بل في سائر الأخبار أن دباغها ذكاتها ، ودباغها طهورها .

وإذا كانت مذكاة لم يختلف حكم الصلاة عليها وبيعها وحكم افتراشها والجلوس عليها كسائر جلود الحيوان المذكاة ، ألا ترى أنها قبل الدباغ باقية على حكم التحريم في امتناع جواز الانتفاع بها من سائر الوجوه كالانتفاع بلحومها ؟ فلما اتفقنا على خروجها عن حكم الميتة بعد الدباغ فيما وصفنا ثبت أنها مذكاة طاهرة بمنزلة ذكاة الأصل .

ويدل على ذلك أيضا أن التحريم متعلق بكونها مأكولة ، وإذا خرج عن حد الأكل صار بمنزلة الثوب والخشب ونحو ذلك . ويدل على ذلك أيضا موافقة مالك إيانا على جواز الانتفاع بشعر الميتة وصوفها لامتناع أكله ، وذلك موجود في الجلد بعد الدباغ فوجب أن يكون حكمه حكمها .

فإن قيل : إنما جاز ذلك في الشعر والصوف ؛ لأنه يؤخذ منه في حال الحياة . قيل له : ليس يمتنع أن يكون ما ذكرنا علة الإباحة ، وكذلك ما ذكرت ، فيكون للإباحة علتان : إحداهما : أنه لا يتأتى فيه الأكل ، والأخرى : أنه يؤخذ منه في حال الحياة فيجوز الانتفاع به ؛ لأن موجبهما حكم واحد . ومتى عللناه بما وصفناه وجب قياس الجلد عليه .

وإذا عللته بما وصفت كان مقصور الحكم على المعلول ، وقد روى الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عبد الله بن عكيم قال : قرئ علينا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب فاحتج بذلك من حظر جلد الميتة بعد الدباغ وغير جائز معارضة الأخبار الواردة في الإباحة [ ص: 144 ] بهذا الخبر من وجوه :

أحدها : أن الأخبار التي قدمناها في حيز التواتر الموجب للعلم ، وحديث عبد الله بن عكيم ورد من طريق الآحاد ، وقد روى عاصم بن علي عن قيس بن الربيع عن حبيب بن أبي ثابت عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عبد الله بن عكيم قال : " كتب إلينا عمر بن الخطاب أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب " فذكر في هذا الحديث أن عمر كتب إليهم بذلك ، فلا يجوز معارضة الأخبار التي قدمنا بمثله .

ومن جهة أخرى أنهما لو تساويا في النقل لكان خبر الإباحة أولى لاستعمال الناس له وتلقيهم إياه بالقبول .

ووجه آخر : وهو أن خبر عبد الله بن عكيم لو انفرد عن معارضة الأخبار التي قدمنا لم يكن فيه ما يوجب تحريم الجلد بعد الدباغ ؛ لأنه قال : " لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب " وهو إنما يسمى إهابا قبل الدباغ ، والمدبوغ لا يسمى إهابا وإنما يسمى أديما فليس إذا في هذا الخبر ما يوجب تحريمه بعد الدباغ .

وأما قول الليث بن سعد في إباحة بيع جلد الميتة قبل الدباغ فقول خارج عن اتفاق الفقهاء لم يتابعه عليه أحد ، ومع ذلك هو مخالف لقوله صلى الله عليه وسلم : لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب ؛ لأنه قبل الدباغ يسمى إهابا .

والبيع من وجوه الانتفاع ، فوجب أن يكون محظورا بقوله : لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب قال أبو بكر : فإن قال قائل : قوله صلى الله عليه وسلم : إنما حرم من الميتة أكلها يدل على أن التحريم مقصور على الأكل دون البيع قيل له : فينبغي أن تجيز بيع لحمها بقوله : إنما حرم أكلها فإذا لم يجز بيع اللحم مع قوله : " إنما حرم أكلها " كذلك حكم الجلد قبل الدباغ فإن قال قائل : منعت بيع اللحم بقوله : " إنما حرم أكلها " قيل له : وامنع بيع الجلد بقوله : حرمت عليكم الميتة ؛ لأنه لم يفرق بين الجلد واللحم وإنما خص من جملته المدبوغ منه دون غيره .

وأيضا فروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها وإذا كان الجلد محرم الأكل قبل الدباغ كتحريم اللحم ، وجب أن لا يجوز بيعه كبيع اللحم نفسه وكبيع سائر المحرمات لأعيانها كالخمر والدم ونحوهما .

وأما جلد الكلب فيلحقه الدباغ ويطهر إذا كان ميتة ، لقوله صلى الله عليه وسلم : أيما إهاب دبغ فقد طهر وقال : دباغ الأديم ذكاته ولم يفرق بين الكلب وغيره ولأنه تلحقه الذكاة عندنا لو ذبح لكان طاهرا .

فإن قيل : إذا كان نجسا في حال الحياة كيف يطهر بالدباغ ؟ قيل له : كما يكون جلد الميتة نجسا ويطهره الدباغ ؛ لأن الدباغ ذكاته كالذبح .

وأما الخنزير فلا تلحقه الذكاة ؛ لأنه محرم العين بمنزلة الخمر والدم [ ص: 145 ] فلا تعمل فيه الذكاة ، ألا ترى أنه لا يجوز الانتفاع به في حال الحياة والكلب يجوز الانتفاع به في حال الحياة ؟ فليس هو محرم العين ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية