الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء

( ( وسمتها بالدرة المضية في عقد أهل الفرقة المرضية ) )      ( ( على اعتقاد ذي السداد الحنبلي
إمام أهل الحق ذي القدر العلي ) )      ( ( حبر الملا فرد العلا الرباني
رب الحجى ماحي الدجى الشيباني ) )



( ( وسمتها ) ) من السمة وهي العلامة ، أي : سميتها يعني عقيدتي التي نظمتها في التوحيد ( بالدرة ) بضم الدال المهملة المشددة وفتح الراء المشددة أيضا اللؤلؤة العظيمة ، والجمع در ودرر ودرات ، ( المضية ) أي المنورة من الإضاءة ، يقال : ضاءت وأضاءت بمعنى يعني استنارت فصارت مضيئة ، ( في عقد ) أي اعتقاد ، ( أهل الفرقة ) أي الطائفة ، ( المرضية ) في اعتقادها المأثور عن منبع الهدى ، وينبوع النور ، ويأتي الكلام عليها قريبا ، ( على اعتقاد ) متعلق بنظمت ، والاعتقاد هو حكم الذهن الجازم ، فإن كان موافقا للواقع فهو صحيح ، وإلا فهو فاسد ، والحاصل أن كل معنى عبر عنه الإنسان بكلام خبري من إثبات أو نفي تخيله أو لفظ به إما أن يحتمل متعلقه النقيض بوجه من الوجوه أو لا ، الثاني العلم ، والأول إما أن يحتمل النقيض عند الذاكر لو قدره أو لا ، الثاني الاعتقاد ، فإن طابق هذا الاعتقاد لما في نفس الأمر فهو اعتقاد صحيح ، وإن لم يطابق ما في نفس الأمر فهو اعتقاد فاسد ، والأول وهو الذي يحتمل النقيض عند الذاكر لو قدره الراجح منه ظن ، والمرجوح وهم ، والمساوي شك . وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله - تعالى - ( ذي ) أي صاحب ، ( السداد ) بفتح السين المهملة المشددة فدالين مهملتين بينهما ألف القصد في الدين [ ص: 61 ] والسبيل .

قال في القاموس : والسدد الاستقامة كالسداد - يعني بالفتح - وأما سداد القارورة والثغر فبالكسر فقط ، وسداد من عوز وعيش لما يسد به الخلة ، وقد يفتح أو لحن اهـ . وقد جزم النضر بن شميل وجمع بلحن من فتح سدادا في قوله - صلى الله عليه وسلم - من حديث ابن عباس ، وأمير المؤمنين علي - رضي الله عنهما : " إذا تزوج الرجل المرأة لدينها وجمالها ، كان فيه سداد من عوز " . وفيه حكاية مشهورة . والمراد بذي السداد هو الإمام الأمجد إمامنا أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد بن إدريس بن عبد الله بن حيان - بفتح المهملة وتشديد التحتية وبعد الألف نون - ابن عبد الله بن أنس بن عوف بن قاسط بن مازن بن شيبان بن ( ذهل بن ) ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب - بكسر الهاء وإسكان النون وبعدها موحدة - بن أفصى - بالفاء والصاد المهملة - بن دعمى بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان الإمام المروزي ثم البغدادي ، ( الحنبلي ) نسبة إلى جده أبي أبيه حنبل ، ( إمام أهل الحق ) الذين هم الفرقة الناجية لاقتفائهم المأثور عن منبع الهدى ، ومعدن الخيرات ، وينبوع النور ، ( ذي ) صاحب ( القدر ) أي المقدار ( العلي ) أي المرتفع السامي لكثرة فضائله ، وتوفر محامده ومناقبه وآثاره في الإسلام المشهورة ، ومقامته في الدين المذكورة ، فقد انتشر ذكره في البلاد ، وعم نفعه العباد .

قال الإمام إسحاق بن راهويه : الإمام أحمد بن حنبل حجة بين الله - تبارك وتعالى - وبين عبيده في أرضه . وقال الإمام الشافعي : خرجت من بغداد ، وما خلفت فيها أحدا أتقى ولا أورع ولا أفقه ولا أعلم من أحمد بن حنبل . وقال أحمد بن سعيد الدارمي : ما رأيت أسود رأس أحفظ لحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أعلم بفقه معانيه من أبي عبد الله أحمد بن حنبل . ومن ثم قلت ( حبر الملا ) بفتح الحاء المهملة وكسرها وسكون الموحدة [ ص: 62 ] العالم والصالح ، والملأ بفتح الميم واللام مهموز : أشراف الناس وجماعتهم وذوو الشارة منهم ( فرد ) أي واحد صاحب الخصال ( العلى ) أي المرتفعة السامية بأوصافها الجميلة ، ونعوتها الفضيلة ، ( الرباني ) أي العالم العامل ، المعلم للعلم غيره ، وهو منسوب إلى الرب بزيادة الألف والنون للدلالة على كمال الصفة ، وهو الشديد التمسك بدين الله - تعالى - وطاعته ، وعن المبرد أنه منسوب إلى ربان الذي يربي الناس بالتعليم .

وقال الصوفية : هو الكامل من كل الوجوه في جميع المعاني . وفي البخاري : الرباني الذي يربى بصغار العلم قبل كباره . وقال بعضهم : الرباني من أفيضت عليه المعارف الإلهية ، فعرف بها ربه ، وعرف الناس بعلمه ، ورأيتني كاتبا في كتابي " القول العلي في شرح حديث سيدنا أمير المؤمنين علي " عند قوله - رضي الله عنه : " الناس ثلاثة : فعالم رباني ، ومتعلم على سبيل نجاة ، وهمج رعاع أتباع كل ناعق " . ما لفظه : العالم الرباني وهو الذي لا زيادة على فضله لفاضل ، ولا منزلة فوق منزلته لكامل . قال ابن عباس - رضي الله عنهما : الرباني هو المعلم ، أخذه من التربية ، أي يربي الناس بالعلم كما يربي الطفل أبوه . وقال سعيد بن جبير : هو الفقيه العليم الخبير . وقال سيبويه : زادوا ألفا ونونا في الرباني إذا أرادوا تخصيصا بعلم الرب ، كما قالوا : شعراني ولحياني لعظيم الشعر واللحية . وقال أبو نعيم الزاهد : سألت ثعلبا عن هذا الحرف ، وهو الرباني ، فقال : سألت ابن الأعرابي ، فقال : إذا كان الرجل عالما عاملا معلما ، قيل له : هذا رباني ، فإن حرم خصلة منها لم يقل له رباني . وفي " مفتاح دار السعادة " للإمام المحقق ابن القيم : معنى الرباني الرفيع الدرجة في العلم العالي المنزلة فيه ، وعلى ذلك حملوا قوله تعالى : ( لولا ينهاهم الربانيون والأحبار ) انتهي . والله أعلم .

( رب ) أي صاحب ، ( الحجا ) كالي العقل والفطنة والمقدار العالي . كان سيدنا الإمام أحمد - رضي الله عنه - ربعة من الرجال ، حسن الوجه ، حسن الهيئة ، لا يخوض في شيء من أمور الناس ، ذا وقار وسكينة ، من أحيا الناس وأكرمهم نفسا ، وأحسنهم عشرة وأدبا ، كثير الإطراق وغض البصر ، معرضا عن اللغو ، لا يسمع منه إلا المذاكرة [ ص: 63 ] بالحديث وذكر الصالحين . قال الإمام الحافظ أبو داود : كانت مجالس الإمام أحمد مجالس آخرة ، لا يذكر فيها شيء من أمر الدنيا . قال : وما سمعته ذكر الدنيا قط . وقال ثعلب في صفته : رأيت رجلا كأن النار توقد بين عينيه . وقال عبد الملك الميموني : ما أعلم أني رأيت أحدا أنظف ثوبا ، ولا أشد تعاهدا لنفسه في ثيابه وشعر رأسه وبدنه من الإمام أحمد بن حنبل . وكان يحب الفقراء ، ويعرض عن أهل الدنيا ، وكان حسن الخلق ، دائم البشر ، لين الجانب ، ليس بفظ ولا غليظ ، يحب في الله ، ويبغض في الله ، ويحب لمن أحبه ما يحب لنفسه ، ويكره له ما يكره لها ، لا تأخذه في الله لومة لائم ، حسن الجوار ، يؤذى فيتحمل . وكان أصبر الناس على الوحدة ، فكان لا يرى إلا في مسجد أو جنازة أو عيادة مريض ، ويكره المشي في الأسواق . وكان يقول : الخلوة أروح لقلبي . وكان يقال : كان ابن مسعود - رضي الله عنه - أشبه الناس برسول الله - صلى الله عليه وسلم - هديا وسمتا ، وكان أشبه الناس بهدي عبد الله وسمته علقمة بن قيس ، وكان أشبه الناس بعلقمة إبراهيم النخعي ، وكان أشبه الناس بإبراهيم منصور بن المعتمر ، وكان أشبه الناس بمنصور سفيان الثوري ، وكان أشبه الناس بسفيان وكيع بن الجراح .

قال محمد بن يونس : وكان أشبه الناس بوكيع الإمام أحمد بن حنبل - رضوان الله عليهم أجمعين . وكان الإمام أحمد - رضي الله عنه - يخضب بالحناء خضبا ليس بالقاني . واعلم أنه لا شبهة عند أئمة الدين بأن سيدنا الإمام أحمد - رضي الله عنه - إمام السنة ، والصابر في المحنة ، ( ماحي ) بنور السنة وإضاءة المتابعة وسنا الوراثة المحمدية أي مذهب أثر ( الدجى ) ، أي ظلمة البدعة ، يقال : دجا الليل دجوا ودجوا ، أظلم كأدجى وتدجى ، وليلة داجية أي مظلمة ، ودياجي الليل حنادسه ، فإن إمامنا وسيدنا الإمام أحمد - رضي الله عنه - كسر سورة أهل البدع ، وشل جموعهم ، ورد كيدهم في صدورهم ، وأبقى شجاهم في نحورهم ، ( الشيباني ) نسبة إلى أحد أجداده شيبان المذكور في نسبه ، فالإمام أحمد - رضي الله عنه - من صريح ولد إسماعيل ، ومن صميم العرب ، وكان أبو الإمام أحمد والي سرخس من أبناء الدعوة العباسية ، وتوفي وله ثلاثون سنة سنة تسع وسبعين ومائة ، وللإمام [ ص: 64 ] أحمد نحو خمس عشرة سنة ، فإن أمه حملت به بمرو ، وقدمت بغداد وهي حامل به ، فوضعته بها ، ووليته أمه واسمها صفية ، وهي شيبانية أيضا ، فإنها صفية بنت ميمون بن عبد الله الشيباني ( من بني عامر ) ، نزل أبوه بهم فتزوجها ، وجدها عبد الملك بن سوادة بن هند الشيباني من وجوه بني شيبان ، تنزل به قبائل العرب للضيافة ، فحاز إمامنا - رضي الله عنه - شرف النسبين ، وكمل له بأصليه تمام الشرفين .

التالي السابق


الخدمات العلمية