الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                باب إسلام عمرو بن عبسة

                                                                                                                832 حدثني أحمد بن جعفر المعقري حدثنا النضر بن محمد حدثنا عكرمة بن عمار حدثنا شداد بن عبد الله أبو عمار ويحيى بن أبي كثير عن أبي أمامة قال عكرمة ولقي شداد أبا أمامة وواثلة وصحب أنسا إلى الشام وأثنى عليه فضلا وخيرا عن أبي أمامة قال قال عمرو بن عبسة السلمي كنت وأنا في الجاهلية أظن أن الناس على ضلالة وأنهم ليسوا على شيء وهم يعبدون الأوثان فسمعت برجلبمكة يخبر أخبارا فقعدت على راحلتي فقدمت عليه فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفيا جرءاء عليه قومه فتلطفت حتى دخلت عليه بمكة فقلت له ما أنت قال أنا نبي فقلت وما نبي قال أرسلني الله فقلت وبأي شيء أرسلك قال أرسلني بصلة الأرحام وكسر الأوثان وأن يوحد الله لا يشرك به شيء قلت له فمن معك على هذا قال حر وعبد قال ومعه يومئذ أبو بكر وبلال ممن آمن به فقلت إني متبعك قال إنك لا تستطيع ذلك يومك هذا ألا ترى حالي وحال الناس ولكن ارجع إلى أهلك فإذا سمعت بي قد ظهرت فأتني قال فذهبت إلى أهلي وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وكنت في أهلي فجعلت أتخبر الأخبار وأسأل الناس حين قدم المدينة حتى قدم علي نفر من أهل يثرب من أهل المدينة فقلت ما فعل هذا الرجل الذي قدم المدينة فقالوا الناس إليه سراع وقد أراد قومه قتله فلم يستطيعوا ذلك فقدمت المدينة فدخلت عليه فقلت يا رسول الله أتعرفني قال نعم أنت الذي لقيتني بمكة قال فقلت بلى فقلت يا نبي الله أخبرني عما علمك الله وأجهله أخبرني عن الصلاة قال صل صلاة الصبح ثم أقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس حتى ترتفع فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان وحينئذ يسجد لها الكفار ثم صل فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى يستقل الظل بالرمح ثم أقصر عن الصلاة فإن حينئذ تسجر جهنم فإذا أقبل الفيء فصل فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى تصلي العصر ثم أقصر عن الصلاة حتى تغرب الشمس فإنها تغرب بين قرني شيطان وحينئذ يسجد لها الكفار قال فقلت يا نبي الله فالوضوء حدثني عنه قال ما منكم رجل يقرب وضوءه فيتمضمض ويستنشق فينتثر إلا خرت خطايا وجهه وفيه وخياشيمه ثم إذا غسل وجهه كما أمره الله إلا خرت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء ثم يغسل يديه إلى المرفقين إلا خرت خطايا يديه من أنامله مع الماء ثم يمسح رأسه إلا خرت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء ثم يغسل قدميه إلى الكعبين إلا خرت خطايا رجليه من أنامله مع الماء فإن هو قام فصلى فحمد الله وأثنى عليه ومجده بالذي هو له أهل وفرغ قلبه لله إلا انصرف من خطيئته كهيئته يوم ولدته أمه فحدث عمرو بن عبسة بهذا الحديث أبا أمامة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له أبو أمامة يا عمرو بن عبسة انظر ما تقول في مقام واحد يعطى هذا الرجل فقال عمرو يا أبا أمامة لقد كبرت سني ورق عظمي واقترب أجلي وما بي حاجة أن أكذب على الله ولا على رسول الله لو لم أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مرة أو مرتين أو ثلاثا حتى عد سبع مرات ما حدثت به أبدا ولكني سمعته أكثر من ذلك

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                قوله : ( وحدثنا أحمد بن جعفر المعقري ) هو بفتح الميم وإسكان العين المهملة وكسر القاف منسوب إلى معقر وهي ناحية باليمن .

                                                                                                                قوله : ( جرآء عليه قومه ) هكذا هو في جميع الأصول جرآء بالجيم المضمومة جمع جريء بالهمز من الجرأة وهي الإقدام والتسلط ، وذكره الحميدي في الجمع بين الصحيحين ( حراء ) بالحاء المهملة المكسورة ، ومعناه : غضاب ذو غم ، قد عيل صبرهم به حتى أثر في أجسامهم ، من قولهم : حرى جسمه يحري كضرب يضرب إذا نقص من ألم وغيره ، والصحيح أنه بالجيم .

                                                                                                                قوله : ( فقلت له ما أنت ) هكذا هو في الأصول ( ما أنت ؟ ) وإنما قال : ( ما أنت ) ولم يقل : ( من أنت؟ ) لأنه سأله عن صفته لا عن ذاته ، والصفات مما لا يعقل .

                                                                                                                قوله - صلى الله عليه وسلم : ( أرسلني بصلة الأرحام وكسر الأوثان وأن يوحد الله لا يشرك به شيء ) هذا فيه دلالة ظاهرة على الحث على صلة الأرحام ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرنها بالتوحيد ولم يذكر له حزبات الأمور ، وإنما ذكر مهمها وبدأ بالصلة .

                                                                                                                [ ص: 435 ] وقوله : ( ومعه يومئذ أبو بكر وبلال ) دليل على فضلهما ، وقد يحتج به من قال إنهما أول من أسلم .

                                                                                                                قوله : ( فقلت : إني متبعك قال : إنك لا تستطيع ذلك يومك هذا ألا ترى حالي وحال الناس ؟ ولكن ارجع إلى أهلك فإذا سمعت بي قد ظهرت فأتني ) معناه : قلت له : إني متبعك على إظهار الإسلام هنا ، وإقامتي معك فقال : لا تستطيع ذلك لضعف شوكة المسلمين ونخاف عليك من أذى كفار قريش ، ولكن قد حصل أجرك فابق على إسلامك ، وارجع إلى قومك واستمر على الإسلام في موضعك حتى تعلمني ظهرت فأتني ، وفيه معجزة للنبوة وهي إعلامه بأنه سيظهر .

                                                                                                                قوله : ( فقلت يا رسول الله ، أتعرفني ؟ قال : نعم أنت الذي لقيتني بمكة ، فقلت : بلى ) فيه صحة الجواب ( ببلى ) وإن لم يكن قبلها نفي ، وصحة الإقرار بها وهو الصحيح في مذهبنا ، وشرط بعض أصحابنا أن يتقدمها نفي .

                                                                                                                قوله : ( فقلت : يا رسول الله ، أخبرني عما علمك الله ) هكذا هو عما علمك ، وهو صحيح ومعناه أخبرني عن حكمه وصفته وبينه لي .

                                                                                                                قوله - صلى الله عليه وسلم : ( صل صلاة الصبح ثم أقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس حتى ترتفع ) فيه أن النهي عن الصلاة بعد الصبح لا يزول بنفس الطلوع بل لا بد من الارتفاع ، وقد سبق بيانه .

                                                                                                                قوله - صلى الله عليه وسلم : ( فإن الصلاة مشهودة محضورة ) أي تحضرها الملائكة فهي أقرب إلى القبول وحصول الرحمة .

                                                                                                                قوله - صلى الله عليه وسلم : ( حتى يستقل الظل بالرمح ثم أقصر عن الصلاة فإن حينئذ تسجر جهنم ، فإذا أقبل الفيء فصل فإن الصلاة مشهودة محضورة ) معنى : يستقل الظل بالرمح أي يقوم مقابله في جهة الشمال [ ص: 436 ] وليس مائلا إلى المغرب ولا إلى المشرق ، وهذه حالة الاستواء ، وفي الحديث التصريح بالنهي عن الصلاة حينئذ حتى تزول الشمس ، وهو مذهب الشافعي وجماهير العلماء . واستثنى الشافعي حالة الاستواء يوم الجمعة ، وللقاضي عياض - رحمه الله - في هذا الموضع كلام عجيب في تفسير الحديث ومذاهب العلماء نبهت عليه لئلا يغتر به . ومعنى ( تسجر جهنم ) توقد عليها إيقادا بليغا . واختلف أهل العربية هل جهنم اسم عربي أم عجمي؟ فقيل : عربي مشتق من الجهومة وهي كراهة المنظر ، وقيل : من قولهم بئر جهام أي عميقة فعلى هذا لم تصرف للعلمية والتأنيث . وقال الأكثرون : هي عجمية معربة وامتنع صرفها للعلمية والعجمة .

                                                                                                                قوله - صلى الله عليه وسلم : ( فإذا أقبل الفيء فصل فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى تصلي العصر ثم أقصر عن الصلاة ) معنى : أقبل الفيء ظهر إلى جهة المشرق ، والفيء مختص بما بعد الزوال ، وأما الظل فيقع على ما قبل الزوال وبعده ، وفيه كلام نفيس بسطته في تهذيب الأسماء .

                                                                                                                قوله - صلى الله عليه وسلم : ( حتى تصلي العصر ) فيه دليل على أن النهي لا يدخل بدخول وقت العصر ، ولا بصلاة غير الإنسان ، وإنما يكره لكل إنسان بعد صلاة العصر حتى لو أخر عن أول الوقت لم يكره التنفل قبلها .

                                                                                                                قوله - صلى الله عليه وسلم : ( يقرب وضوءه ) هو بضم الياء وفتح القاف وكسر الراء المشددة أي يدنيه ، والوضوء هنا بفتح الواو وهو الماء الذي يتوضأ به .

                                                                                                                قوله - صلى الله عليه وسلم : ( ويستنشق فينتثر ) أي يخرج الذي في أنفه ، يقال نثر وانتثر واستنثر ، مشتق من النثرة وهي الأنف ، وقيل : طرفه وقد سبق بيانه في الطهارة .

                                                                                                                قوله - صلى الله عليه وسلم : ( إلا خرت خطايا وجهه وفيه وخياشيمه ) هكذا ضبطناه ( خرت ) بالخاء المعجمة ، وكذا نقله القاضي عن جميع الرواة إلا ابن أبي جعفر فرواه ( جرت ) بالجيم . ومعنى ( خرت ) بالخاء أي سقطت . ومعنى ( جرت ) ظاهر . والمراد بالخطايا الصغائر كما سبق في كتاب الطهارة ما اجتنبت الكبائر . والخياشيم جمع خيشوم وهو أقصى الأنف ، وقيل : الخياشيم عظام رقاق في أصل الأنف بينه وبين الدماغ ، وقيل غير ذلك .

                                                                                                                قوله - صلى الله عليه وسلم : ( ثم يغسل قدميه ) فيه دليل لمذهب العلماء كافة أن الواجب غسل الرجلين ، وقال الشيعة : الواجب مسحهما ، وقال ابن جرير : هو مخير ، وقال بعض الظاهرية : يجب الغسل والمسح .

                                                                                                                [ ص: 437 ] قوله : ( لو لم أسمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا مرة أو مرتين أو ثلاثا حتى عد سبع مرات ما حدثت به أبدا ولكني سمعته أكثر من ذلك ) هذا الكلام قد يستشكل من حيث إن ظاهره أنه لا يرى التحديث إلا بما سمعه أكثر من سبع مرات ، ومعلوم أن من سمع مرة واحدة جاز له الرواية ، بل تجب عليه إذا تعين لها ، وجوابه أن معناه : لو لم أتحققه وأجزم به لما حدثت به ، وذكر المرات بيانا لصورة حاله ولم يرد أن ذلك شرط ، والله أعلم .




                                                                                                                الخدمات العلمية